اليوم تطوي دولة الإمارات خمسينيتها الأولى الحافلة بالإنجازات والتحديات، لتبدأ غداً خمسينيتها الثانية المليئة بالتطلعات والتحديات أيضاً، وفي ظل ظروف دولية مغايرة وتقدم علمي وتكنولوجي هائل وسريع يفرض أجندنه التي تختلف تماماً عن أجندة سنوات التأسيس قبل خمسين عاماً.

إلا أن النجاحات لا تُبنى من فراغ، فالتطلعات والبرامج للسنوات الخمسين القادمة بُنيت على أساس ما تَحقق في الخمسين عاماً الماضية والتي استندت إلى أسس وقيم تحولت معها دولة الإمارات من سبع إمارات إلى دولة اتحادية قوية اقتصادياً بتأثيرات جيوسياسية وأبعاد إقليمية وعالمية مشهودة.

لقد عاصر جيلنا البدايات الأولى بكل تفاصيلها، كما عاصر الإرادة الصارمة لإصرار المؤسس وإخوانه على تجاوز هذه الصعوبات وتذليلها، حيث سخرت كافة الإمكانيات المالية والبشرية لتقوية بنية الاتحاد ودعم التنمية الاقتصادية بتشريعات وأنظمة وقوانين حديثة، مع التركيز على إقامة بنية أساسية لتهيئة الظروف المناسبة لتطوير التعليم والصحة والإسكان وتوفير الخدمات الأساسية وإقامة مرافق لوجستية للتجارة والنقل والاتصالات، ما أدى إلى تكوين بنية تحتية متكاملة وفريدة من نوعها أسهمت في جذب رؤوس الأموال المحلية والخارجية، وهو ما أسهم بدوره في تحقيق معدلات نمو سريعة أحدثت توسعاً اقتصادياً شاملاً في فترة زمنية قصيرة نسبياً.

وأدى كل ذلك إلى تقديم تجربة تنموية ثرية فرضت نفسها، كأحد أهم التجارب التنموية ذات الطابع العالمي بعد أن تحوّلت البنية الاقتصادية الأحادية المعتمدة على مورد النفط إلى اقتصاد متنوع من خلال تنمية العديد من القطاعات غير النفطية والتي توفرت للبعض منها مقومات محلية، كصناعة الألمنيوم والبتروكيماويات والمنتجات النفطية، إلا أن بعضها، كالسياحة ومراكز النقل الجوي والخدمات المالية ذات الطابع العالمي، كانت بمثابة الحلم الذي تحول إلى حقيقة تجاوزت معها الدولة العديد من مراكز الثقل السياحي والتجاري والمالي في العالم، وهو ما أدى مؤخراً بمنظمة «اليونسكو» إلى اعتماد اليوم الوطني لدولة الإمارات، كيوم عالمي للمستقبل، تحتفي به كافة بلدان العالم.

الآن، وفي بداية الخمسينية الثانية، تقف الدولة أمام مستجدات ومهام أخرى تختلف عن سابقتها، فالتقدم التقني ألغى الأفضليات التنافسية السابقة وفرض مجالات جديدة للتنافس شبه متساوية، كما أن طبيعة المنافسة تغيرت تماماً مع التحولات الخاصة بالاقتصادات الرقمية المعتمدة على المعرفة والابتكار والتي أصبحت تشكل القيمة الحقيقية للثروة والتي تتطلب تنميتها بنيةً أساسيةً مختلفةً تماماً تستند إلى مراكز الأبحاث ومختبرات التجارب والاختراعات والموارد البشرية المبدعة والمؤهلة تأهيلاً عالياً.

وفي هذا الصدد بدأت الإمارات التحضير لمرحلة التنمية القادمة بإعداد البنية التقنية والعلمية من خلال التحول للحكومة الذكية وعلوم الفضاء والتوسع في التعليم التقني بكافة فروعه وتحويل العاصمة أبوظبي إلى مركز عالمي للطاقة المتجددة والنظيفة، حيث يتوقع أن تشكل مصادر هذه الطاقة 50% من احتياجات الدولة من الطاقة بحلول عام 2050.

وضمن هذه الاستعدادات للخمسين القادمة اعتمد رئيس الدولة مؤخراً أكبر تغييرات تشريعية في تاريخ الدولة، وذلك بتحديث أكثر من 40 قانوناً لمواءمة القوانين مع المستجدات التقنية والرقمية، كما تمت إعادة هيكلة المؤسسات الإدارية، بما فيها مجلس الوزراء، لتستجيب للتغيرات المرتقبة في بنية الاقتصاد الرقمي، فأُسست وزارة للذكاء الاصطناعي ووزارة أخرى للتكنولوجيا المتقدمة، وأُقيمت المزيد من الجامعات والكليات العلمية المتخصصة بالعلوم والتكنولوجيا ووقعت اتفاقيات مع العديد من الدول المتقدمة لدعم البنية الأساسية لاقتصاد المعرفة والتي تسعى الدولة إلى إقامتها في السنوات القادمة.

ومثلما كانت بداية التحضير للخمسين الأولى صحيحة وتمخض عنها إقامة دولة ناشئة بتجربة تنموية فريدة، فإن ما أشرنا إليه يعتبر بداية صحيحة كذلك لتأسيس بنية تقنية وعلمية تتناسب ومرحلة الخمسين القادمة، وهو ما يدعو للتفاؤل بإمكانية تحقيق إنجازات جديدة لدولة طموحة تشق طريقها لحجز موقع متقدم في ظل تغيرات عالمية سريعة وتقدم علمي ومعرفي لا مجال فيه للتردد والتأجيل.. فطريق الإمارات أصبح واضحاً ومحددَ الأهداف لشكل الدولة ومكانتها الدولية في عام 2071.

*خبير ومستشار اقتصادي