توفي يوم 24 نوفمبر 2021 المستشرق الكبير «جوزف فان أس» عن سبعةٍ وثمانين عاماً، فهو من مواليد عام 1934 بمدينة أخِن.

وقد تعرفتُ عليه في خريف عام 1972، لأنّ مدير المعهد الألماني للدراسات الشرقية ببيروت يومَها الأستاذ «شتفان فيلد» نصحني عندما حصلتُ على منحة من مؤسسة «كونراد أديناور» الألمانية للتحضير للدكتوراه أن أتتلمذ عليه باعتباره أكبر دارسي الفلسفة الإسلامية الوسيطة وعلم الكلام في ألمانيا، إن لم يكن في العالم كله. رحّب بي «فان أس» وسُرّ لأنني متخرج في الأزهر.

وفي البداية كنتُ أتجرأ عليه، سواء في اللغة أو في علم الكلام أو التاريخ الإسلامي، وكان صبوراً معي ويقابل كل ملاحظاتي بابتسامات، ثم تبين لي ولم ينقض العام 1973، وكنت قد قرأت كتبه ومقالاته، بعد أن تحسّنت ألمانيتي، أنّ الرجل عميق الغور وشاسع العلم بالإسلام وحضارته، مع اطّلاعٍ واسعٍ على المسيحية الوسيطة أيضاً، وكان –بخلاف معظم المستشرقين الألمان– كاثوليكياً متديناً. ترك «جوزف فان أس» حوالى خمسين كتاباً ومائتي مقال علمي. وكان قد بدأ حياتَه العلمية بأطروحة عن الحارث بن أسد المحاسبي (توفي 243هـ)، الزاهد الصوفي.

ثم انصرف في معظم دراساته إلى البحوث الكلامية، فكتب أطروحة التأهل للأستاذية عن عضد الدين الإيجي، المتكلم الأشعري المتأخر صاحب كتاب «المواقف». لكنه اقتصر بعد ذلك على دراساتٍ ونشر نصوص كلامية في القَدَر من القرنين الأول والثاني للهجرة. أما في كتابه الكبير: علم الكلام والمجتمع في القرنين الثاني والثالث للهجرة (الواقع في ستة مجلدات) فإنه شمل باهتمامه متكلمي القرن الثالث الهجري أيضاً. بيد أنّ الحديث عن انحصار اهتمامات «فان أس» لا يبدو دقيقاً، فالواقع أنه كتب في كل ما له علاقة بالإسلام في الماضي والحاضر، حتى أنه كتب عن ظاهرتي «مالكولم أكس» و«محمد علي كلاي» والسود في الولايات المتحدة!  

  «فان أس» آخر التاريخانيين الألمان الكبار (فيلولوجيا وتاريخ) في مجال الاستشراق، والأفضل القول في مجال الدراسات الإسلامية. وكان مهتماً في معظم ما كتب بتاريخ الأفكار وليس بالتاريخ السياسي أو الاجتماعي.     لماذا يستحق «فان أس» الذكر بل والدراسة؟ لأنه إلى جانب «مونتغومري وات» (مات قبل خمسة عشر عاماً) و«فنفريد مادلونغ» و«دانيال جيماريه» (وهما متقدمان في السن ومريضان)، يعد آخِر أولئك الأوروبيين المتخصصين في مجال معرفة الإسلام وحضارته. وقد كتبوا دراساتٍ توشك أن تصبح من كلاسيكيات دراسات الإسلام. ورغم تقلبات الظروف فإنّ أحداً منهم ما تحزب ولا تعصب.

وقد لقوا عنتاً من شبان «المراجعين الجدد» لأنّ مناهجهم محافظة، ولأنهم ما كانوا سلبيين تجاه الإسلام والمسلمين في القديم والحديث.     هل انقضى الاستشراق؟ نعم، بالمعنى الذي قصده إدوارد سعيد فإنه انتهى. لكنّ الدراسات العربية والإسلامية بالجامعات الغربية الأوروبية والأميركية تشهد نهوضاً كبيراً. وحوالي نصف الأساتذة بعد عشر سنين سيكونون من أصول عربية وإسلامية.

إنجازات «فان أس» في دراسات الإسلام كبيرة وكثيرة. فقد استكشف الأفكار والشخصيات والكتب في القرن الثاني الهجري بطريقةٍ عجائبية في استقصائها. نحن نعرف أكثر بكثير من ذي قبل عن التاريخ الفكري والكلامي في القرن الثاني الهجري بسبب دراساته المستفيضة. إنما ليس هذا فقط. بل يظهر في أمرين آخرين: الدقة في تأمل النصوص التي نشر بعضَها محقَّقاً ودرس البعض الآخر أو تأمله في سياقاته.  

  عندما حصلتُ على الدكتوراه، كان عليّ أن أُتابع أوراقي في إدارة الجامعة، وقالت لي الموظفةُ: تحتاج لتوقيع عميد الكلية. وقلت لها: أين أجده؟ فضحكت وقالت: هو أستاذك «فان أس» وتجده في المكتبة عندكم من الصباح إلى المساء! وكتبت في خاتمة كتابي «المستشرقون الألمان» (2014): انتهى الاستشراق بالمعنى المتعارف عليه.. أما أبناء جيلنا ممن نالهم شواظ تلك الأعمال الساحرة، فما تزال النوستالجيا الحارقة تؤرّق أذهانهم وعيونهم التي نال منها الكلل دون أن يسيطر عليها الملل!     لقد ذكرناك يا يوسف وسنظل نذكرك، والذكر للإنسان عمرٌ ثان!

*أستاذ الدراسات الإسلامية بالجامعة اللبنانية