مع سير «أولاف شولتز»، وزير مالية ألمانيا، في طريق تولي منصب مستشار حكومة جديدة، تسير أرقام البلاد في طريق مثير للقلق. وأحد هذه الأرقام، معدل الإصابات بفيروس كورونا ومعالجتها في المستشفيات.

والرقم الثاني يمثل البعبع التاريخي للروح الألمانية وهو التضخم. ومن الواضح منذ شهور أن التضخم في منطقة اليورو يتسارع هذا العام ويصعد أسرع في أكبر اقتصاديات المنطقة. فقد ارتفعت الأسعار في ألمانيا 4.6% عما كانت عليه قبل عام. والآن عزز «بوندسبنك»- البنك المركزي الألماني- توقعاته لنوفمبر لتصل نسبة الارتفاع نحو 6%. وذات يوم، كان مثل هذا التوقع من واحد من أكثر البنوك المركزية صرامة في العالم يتسبب في صدمة وترويع في ألمانيا وأسواق مالية في مناطق أخرى. فقد قال رئيس فرنسي سابق للمفوضية الأوروبية ذات يوم، «ليس كل الألمان يؤمنون بالرب. لكن كلهم يؤمنون ببوندسبنك».

وإيمانهم قائم تحديداً على الاقتناع بأن المصرفيين في فرانكفورت-مقر بوندسبنك- يبذلون كل ما في وسعهم للحفاظ على استقرار الأسعار. وزيادة بنسبة 6% تبدو بعيدة كثيراً عن الاستقرار. والآن بالطبع، ليس بوندسبنك إلا واحدة من 19 مؤسسة عضو في البنك المركزي الأوروبي، ولم يعد بوسعه وحده إملاء أسعار الفائدة على القارة برمتها. لكن مازال له نفوذ. وكثيرون من المتشددين نقدياً في ألمانيا لم يسعدهم سعر الفائدة المنخفض وأيضاً برامج البنك المركزي الأوروبي الكبيرة لبيع السندات. ويميلون إلى تفسير مغادرة «ينس فايدمان» السابقة لأونها من منصبه كرئيس بوندسبنك، باعتبارها احتجاجاً.

وقدم فايدمان استقالته قبل شهر في غمرة تساهل متزايد من كريستين لاجارد، رئيسة البنك المركزي الأوروبي. وتصرف فايدمان يتفق بالتأكيد مع تقليد قديم للمصرفيين الألمان الذين يخرجون من بوندسبنك أو البنك المركزي الأوروبي بطريقة سلبية لكن غاضبة تستهدف الأوروبيين الآخرين الذين يخالفونهم توجههم. وخروج فيدمان الذي أُعلن في أكتوبر جاء في توقيت حرج. فقد تفاقم السجال في مفاوضات الائتلاف غير المؤكد بالفعل بين الحزب «الديمقراطي الاشتراكي»، الذي ينتمي إليه «شولتز» وحزب الخضر وحزب «الديمقراطيين الأحرار». ويميل «الديمقراطي الاشتراكي» و«الخضر» إلى التساهل في السياسة النقدية والمالية في ألمانيا والاتحاد الأوروبي. لكن «الديمقراطيين الأحرار» يتألف من متشددين تجاه السياسة المالية في ألمانيا وفي بروكسل.

ويريد «الديمقراطيون الأحرار»، استعادة قواعد ألمانيا في الميزانية المتوازنة، في أقرب وقت ممكن، بعد توقف العمل بها أثناء الجائحة. وسيحاولون أيضاً منع أي نوع من التكامل المالي في الاتحاد الأوروبي الذي يعتبرونه «اتحاد تحويل». وبهذا المصطلح، يقصدون أي ترتيب تتدفق وفقاً له أموال دافعي الضرائب باليورو بشكل دائم من الدول المقتصدة مثل ألمانيا إلى حفر لا قرارها لها في الدول الأعضاء المبذرة. وفي سبيل تحقيق أفكار حزب «الديمقراطيين الأحرار» ولدعم سيرته الذاتية، يسعى «كريستيان ليندنر»، رئيس الحزب، جاهداً فيما يبدو كي يصبح وزير المالية التالي.

لكن هذا يصطدم مع طمع «روبرت هابيك»، أحد زعماء حزب «الخضر»، في المنصب نفسه. وإذا كان الصراع صعباً أصلاً، في أصبح يتعين عليهم جميعاً الآن الجدل بشأن العثور على بديل لفيدمان أيضاً. ولذا هناك احتمال أن تضيع الفروق الدقيقة في تقرير بوندسبنك في غمرة السجال السياسي. والفارق الدقيق الأساسي يتمثل في أن نوبة التضخم الحالية رغم أنها مثيرة للخوف، لكن من شبه المؤكد أنها مجرد تقلب عابر. ومعظم التوقعات الاقتصادية تتفق مع هذا التصور. فمعظم الصعود في أسعار ألمانيا ناتج عن عوامل تحدث لمرة واحدة، مثل الانخفاض الاستثنائي في العام الأول من الجائحة والصعود المؤقت لبعض ضرائب القيمة المضافة التي يجري تطبيقها حالياً.

وهناك دور أيضاً يلعبه ارتفاع أسعار الطاقة التي تؤثر على القارة برمتها والعالم. وبمجرد أن تختفي هذه الظروف الخاصة مرة أخرى، يعتقد «بوندسبنك» أن يستقر التضخم عند نحو 3% في ألمانيا في المستقبل المنظور. وهذا أعلى من المعدل البالغ 2% الذي استهدفه البنك المركزي الأوروبي في منطقة اليورو ككل. لكن بعد فترة طويلة من ارتفاع الأسعار إلى أقل من المستهدف، لا يُستبعد تقريباً فيما يبدو أن تتجاوز دولة عضو واحدة الحد المستهدف قليلاً.

وحاول «شولتز» إلى الآن تقليص ظهوره في محادثات الائتلاف كي لا يقصي «الخضر» و«الديمقراطيين الأحرار» الأكثر مشاكسة. وسيكون من الحكمة أن يقوم «شولتز» بتذكير «ليندنر» بصفة خاصة ومتشددي ألمانيا الماليين بصفة عامة بأمرين. أولهما: يجب عليه توضيح أن السياسة المالية والنقدية يجب العمل عليها سوياً، وليس إلغاء طرف على حساب آخر. فأحد الأسباب التي جعلت السياسة النقدية الأوروبية لفترة طويلة متساهلة كثيراً- وهذا مصدر غم للمحافظين الألمان- هو أن السياسة المالية الألمانية محافظة للغاية. فليخفف البعض قبضتهم على السياسة النقدية قليلاً، والبنك المركزي الأوروبي قد لا يتساهل للغاية في الحصول على المال، لفترة طويلة، كي يقود منطقة اليورو إلى التعافي. وثانيهما: يجب على «شولتز» تذكير «ليندنر» أن ألمانيا جزء من منطقة اليورو. والألمان ليس لهم أن يتوقعوا أن يبدي البنك المركزي الأوروبي- مقره فرانكفورت أيضاً- توقيراً خاصاً لإحصاءات البلد المضيف. صحيح أنه من الجيد التحلي باليقظة لمنع خروج التضخم عن السيطرة، لكن السياسة الأفضل حاليا، في برلين وفرانكفورت وبروكسل ومدن أخرى، تتمثل في السيطرة على هذا القلق الألماني والمضي قدماً.

*رئيس التحرير السابق لصحيفة «هاندلزبلات جلوبال».

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»