ـ هناك أشياء في الحياة وفي أيامنا لا نراها، ولكنها ليست بالضرورة بعيدة، أشياء تغشى نهارنا، وقد ترافق ظلال ليلنا، قد تصادفنا في الطرقات، وتلامس أكتافنا كغيمة شاردة عافت سماءها، ذاهبة باتجاه تلك النهاية الأبدية، للمغيب في أرض لا تعرفها، لكنها فرحة بحرثها، وترك سرها الأخير فيها.
ـ امرأة أوروبية صيفية عابرة بفستانها المشجر الرهيف، تطارد الصباح بعطرها، ولونها القمحي الذي جالسته الشمس في ظلها، تمر بعجلتها، تاركة الهواء يزاغي شعرها الذي يحمل غواية السنابل، والركض في البَراري، غير حافلة بتخيلاتك، ولا ما حرّك فيك من تذكر الريف الأوروبي ذي النسمة الباردة، وتلك الصبايا الحافيات المتعافيات باتجاه الكروم، عاصرات العنب بأكعابهن المحمَرّة.
ـ تمضي على مهلك في صباحك تتلقى مخالفة مرورية لا تدري عنها، إلا من خلال رسالة نصيّة من هاتفك، تصلك فاتورة اتصالات منبهة بحلول استحقاق المبلغ الذي تجده مبالغاً فيه هذا الشهر، وخسارة ثرثرة ربما لم تكن نافعة، امرأة تنحرف بها سيارتها وهي لاهية ساهية، وتكاد أن تصطدم بسيارتك، وأنت تراقبها، متوجساً ذاك الخطر الأنثوي منها، وحين بلغت حد تلاقي الحديد بالحديد، نبهتها بذلك الصوت المزعج المختبئ في ثنايا السيارة، والذي نادراً ما تستعمله، ولا تحب سماع صوته، فتجفل، وتغضب، وتريد أن تركّبك الغلط والحق، اتصال هاتفي من شخص توحي حشرجة صوته الأفريقي بعدم ثقة في النفس، يطرح عليك إدارة عقاراتك المتعددة، نيابة عنك، تضحك من المتعددة، لا من العقارات، تمضي باتجاه نهارك لا تريد أحداً أن يجرحه، ولا يخرجك من إيقاع صباح تحبه أن يدوم بالعافية.
ـ رجل تبدو عليه مظاهر التقاعد المبكر، يجبرك أن تبقى تتأمل فجره من بعيد، وتسليته الماء، يرش أغصان شجر حديقته، ونخيلاته الصابرة على ألم الملح، لا ينسى حظ الطيور المتقافزة من الماء، ونثر الحَبّ، يضاحك العاملة معه برشاش الماء، يستريح قليلاً على كرسي الحديقة، يمز قهوته، ويسحب نَفَساً من سيجارته، ويظل يراقب الدرب ومن يمر به، حتى تتقافز أمامه طفلتان في زيهما المدرسي الأخضر والأبيض، فيقوم متعكزاً على ركبتيه فرحاً ليمارس دور الجد الذي جاءه مبكراً.
ـ جميل حين نحاذي تلك الأشياء التي لا نراها، والتي ليست بالضرورة بعيدة، حتى إنها من قربها تكاد أن تطبع قبلة على الخد خاطفة، مثل نفّة مطر مباغتة، لتذكرنا أن القلوب لا العيون من ترى الأشياء الخضراء في حياتنا.