يبدو الوضع في الشمال السوري الآن مقلقاً، فثمة تهديدات بمعارك عنيفة يتم التمهيد لها كل يوم بقصف وضحايا، وثمة خوف من اندلاع الحرب على مدى واسع، ومن تحولها إلى صراعات دولية تزيد الوضع السوري قسوةً. وهناك في الشمال السوري، شرقه وغربه، أكثر من خمسة ملايين من سكان المنطقة ومن النازحين إليها، وهؤلاء لن يجدوا ملاذاً آمناً يلجؤون إليه حين تشتد المعارك، فالأتراك يعلنون أنهم لن يستقبلوا المزيد من اللاجئين، وستواجه أوروبا موجات جديدة وضخمة من الهاربين إليها بمغامرات في شتاء البحر، وسيكون هناك عشرات الآلاف من الضحايا (لا سمح الله)، وهذا ما يدعو إلى مطالبة أصدقاء الشعب السوري بأن يسعوا إلى إيقاف الانزلاق نحو المواجهة العسكرية، وإلى إيجاد حلول سياسية تنهي مسببات الحرب.
وأنا شخصياً أدرك أهمية الحاجة إلى تغيير جذري في الشمال، فالتنظيمات المسيطرة في المناطق الشرقية والغربية لا تعبّر عن أهداف الشعب السوري، ولا تملك القدرةَ على الاستمرار، وليس مقبولاً أن تظهر دويلات أو كانتونات، وكذلك لن يقبل الشعب هناك تسليم نفسه لمن يهدده بالقتل والاعتقال.. وهذا ما يتطلب رؤية جديدة عادلة. والمؤسف أنَّ توجُّه العالم إلى اعتبار اللجنة الدستورية مفتاحَ الحل، وصل إلى ما سماه المبعوث الدولي بيدرسون «خيبة الأمل» وهو يعلن فشل الجولة السادسة من جولات اللجنة الدستورية. وقد شهدت ولادة هذه اللجنة استعصاءً شديداً على مدى عامين، ولم يكن طرفاً الأزمة (الحكومة والمعارضة المسلحة) راغبين بها، لكنهما وافقا بدفع روسي للحكومة السورية، أما المعارضة فوجدت في هذه اللجنة (كما يبدو) خياراً وحيداً متاحاً لبقاء قضيتها قيد الاهتمام والتداول الدوليين، وقد تبنَّتها الأمم المتحدة واعتبرتها مفتاحَ تنفيذ القرار الأممي 2254، متجاهلةً تراتبية هذا القرار الذي وضع سيناريو التنفيذ وجعل تشكيل هيئة حكم انتقالي البداية والمنطلق. 

وكانت مفاوضات الحل السياسي قد توقفت منذ أن كان ديمستورا مبعوثاً أممياً لتسيير التفاوض بين طرفي الأزمة، وللأسف لم يسع إلى تشكيل هيئة الحكم الانتقالي، بل قام بتفتيت القضية السورية إلى أربع سلال، وجعل هيئة الحكم سلّةً توازي سلة الدستور، وسلة الانتخابات، وأعطى أولوية لسلة مكافحة الإرهاب، وحاول أن يشغل هيئة التفاوض بسلة الدستور، إلا أن الهيئة بقيت تصر على أولوية البحث في ملف الانتقال السياسي، دون أن ترفض بحث السلال الأخرى. وإزاء الضغوط الدولية وافقت الهيئة على تشكيل لجان (استشارية) غير ملزمة بقراراتها، لبحث تلك الملفات بعيداً عن مقر التفاوض الرئيسي في جنيف.
وكانت الأحداث الساخنة تعيق تقدم المفاوضات، وأهمها الحصار والحاجة الماسة للمساعدات، فضلاً عن القصف الذي تصاعد منذ أواخر عام 2015، مما شغل المفاوضات بمطالبات حثيثة صارت لها الأولوية الراهنة الكبرى كوقف إطلاق النار وفك الحصار، والسماح بالمساعدات.. وهكذا وجد المفاوضون أنفسهم يبحثون فيما جعله القرار الدولي فوق التفاوض ومقدمةً له وسماه «حسن النوايا وبناء الثقة»، وأصرت روسيا على أن تفرد لهذه القضايا مساراً في آستانة.
ونذكر أن الروس وضعوا على طاولات التفاوض في آستانة مشروع دستور مقترح أمام المشاركين في جولة آستانا الأولى، فرفضوا البحث فيه لأنه ليس من اختصاص لجنتهم، وقد تركز الاهتمام بمسار آستانة مع إهمال مسار جنيف، وكانت هيئة التفاوض تصر على أن يناقش القرار الدولي في جنيف، وأن تبقى الأولوية لتشكيل هيئة الحكم الانتقالي، وقد أعدت الهيئة رؤية شاملة ومحكمة لمستقبل سوريا، لكنها لم تلق اهتماماً دولياً. 
والمفارقة أن السوريين على الضفتين باتوا خارج مسارات التفاوض الذي بات بين الدول المتدخلة بالقضية السورية وحدها (روسيا وإيران وتركيا)، والواضح أن هذه الدول لم تصل بعد إلى رؤية مشتركة للحل، وهذا ما يجعل الصدام العسكري محتملاً ومريعاً.


وزير الثقافة السوري السابق