تؤكد عالمة الأنثروبولوجية الأميركية «لورا نادر»، أن الصراع والعدوان هما جزء هام من النموذج العام لتطور الكائنات الحية وقدرتها على التكيف عموماً، والإنسان وقدرته على التكيف السلوكي بشكل خاص، والذي يؤسس أن البعد الأنثروبولوجي وما يمثله من تفاعلات وتطور بين الأعراق والأجناس البشرية، يشكل أحد الأبعاد الرئيسية للصراع من المنظور الاجتماعي، فيصبح الصراع عملية اجتماعية معقدة متعددة الأبعاد، تنشط في محتويات عديدة متنوعة، وينتج عنها عديد من النتائج المختلفة.

في تفسيرها لهذه الرؤية، ترى «نادر» أنه ليس من الممكن إغفال البعد الأنثروبولوجي في دراسة الصراع الاجتماعي، فالإنسان من جانب قد طور الثقافة والقدرة على تطويع رموزها، كما أن فهم الصراع ودراسته أمر لا يحتاج لأن ترتبط بشكل دائم بالسلوك العدواني، باعتبار أنه ليس نوعاً سلوكياً في حد ذاته، بقدر ما هو تعبير عن موقف ناتج عن عدم التوافق في المصالح أو القيم من جانب، وبالعديد من الخصائص والسمات المميزة لهذا الموقف من جانب آخر، ومن هذه السمات ما يتعلق بعناصر الاجتماع كالتناقض في نظام القيم، وعناصر الإحباط والعدوانية، والأبنية والهياكل الوظيفية، وآليات الاتصال، والسيطرة، والحل، وغيرها من الخصائص التي تميز موقفاً صراعياً بذاته.

دراسة الروافد الصراعية المختلفة، وبالاستناد إلى المدخل الاجتماعي، يفتح الباب لوضع رؤية متكاملة وشاملة لظاهرة الصراع في مستوياتها وأبعادها المختلفة، ومن خلال وسائل التحليل الموضوعي يمكن تفكيك كافة أشكال تعقيدات الصراعات بالفصل بين متغيراتها ومكوناتها، خاصة بين متغيرات المصالح والمكونات القيمية والثقافية والأيديولوجية، وهذا الفصل الضروري بين المتغيرات والمكونات، سوف يجعل الرؤية أكثر سلاسة، حيث يحجّم المصالح التي تتضمن موقفا صراعياً شائكاً، ويخفف من حدة أوزان مصادر الصراع النسبية، وقد يساهم في إدخال تغييرات مهمة وجوهرية في بيئة المفاوضات والتسويات، ويؤدي إلى خلق مناخ تعاون وتفاهم يساهم في بناء أرضية مشتركة.أما تحليل الصراع من مدخل سباق التسلح بين الدول، فإن ثورة التكنولوجيا في مجال الأسلحة تؤدي غالياً إلى حدوث فجوات في أنظمة التسلح بين الدول المتقدمة المنتجة والدول غير المنتجة، فيصبح الصراع الدولي ممكناً في ظل وجود من يرغب في شن حروب وهو قادر عليها، ويكون التفكير منصباً على التصعيد والخصومة والعداء ثم شن الحروب قبل فقدان ميزة التطور التكنولوجي المتغيرة.

ويرى الدكتور منير بدوي، في كتابه «مفهوم الصراع: دراسة في الأصول النظرية للأسباب والأنواع»، أن التفوق التكنولوجي في نظم التسلح يدفع أيضاً لاستعراض القوة كوسيلة للضغط بصدد التسوية الدبلوماسية، مما يؤدى إلى شحن الصراعات بمزيد من التوتر والعنف بصرف النظر عن الأسلوب المقصود أو غير المقصود الذي قد يحدث، وأن إطار السرية المرتبط بسباق التسلح يخلق مناخاً من الشك والخوف وعدم التيقن لدى الأطراف المعنية، الأمر الذي لا يساعدها على حل المنازعات السياسية، بل قد يكون سبباً في الدفع نحو الصدام والصراع.

ويرى بدوي أن استمرار التطور التكنولوجي في مجالات ونظم التسلح يدفع بدوره مجموعات المصالح المرتبطة به نحو مواصلة ضغوطها على دوائر صنع القرار للإبقاء على كل أو بعض بؤر التوتر والصراعات ساخنة وملتهبة، بما يضمن مصالح هذه الجماعات بأقصى درجة ممكنة. قد يؤدي سباق التسلح إلى شحن أجواء الصراعات وزيادة التوتر لكنه ليس منتجاً للصراع الدولي بحد ذاته، ونلاحظ هنا أنه يمكن التوصل إلى اتفاقيات تقضي بنزع السلاح، أو الحد منه، لكن الصراع القائم في الأساس لا يتم التطرق إليه، ومثال ذلك ما يحدث بين الولايات المتحدة الأميركية وروسيا، حيث إن جذور الصراع المختلفة، ما زالت قائمة وتتشعب من دون حلول جوهرية، ولا يمكن تسويتها وتصفيتها دون دراسات استراتيجية عميقة تبحث في منابع ومصادر الصراعات من مداخلها الأخرى المختلفة، وتبدأ بتفكيكها وحلحلتها وإيجاد المناخ والأرضية المشتركة لحلها.

حين قال سمو الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان وزير الخارجية والتعاون الدولي، في سبتمبر 2020: إن «الشعوب سئمت الصراعات وترغب بالاستقرار»، وأن «السلام في المنطقة سيفضي للقضاء على قوى الهزيمة والصراع» وأن «الأولوية القصوى هي لتخفيف التوتر في المنطقة وبدء حوار السلام والأمن ومواصلة تطوير مجتمعاتنا وترسيخ استقرار المنطقة»، فقد كان لتأثير بيان وكلمات سموه أبلغ الأثر، في إعادة توجيه ولفت نظر المجتمع الدولي، إلى أن المدرسة الإماراتية في حل وتسوية الصراعات الدولية هي المنهج والسبيل الوحيد، لعودة الأمن والاستقرار الذي تبحث عنه الشعوب.

* لواء ركن طيار متقاعد