هناك عند الرمش والمقلة، حيث لمعت دمعة الجداول ما بين النخيل، نخل أمين، ونخل رقيط،  ويقابلهما نخل كنان، كان الوقت مساء قبل الغروب بساعة ونيف، آلة الضخ السحرية تقهقه، متناغمة مع نبضات الماء في عروق البئر العميقة، كما والهدهد بتاجه المزركش، وله ساقاه وتدان دقيقان يغرسان طاقتهما البيولوجية على عارضة خشبية تمتد على فوهة بئر الماء، وتكسوها ملاءة من سعف النخل، هناك رفرف الهدهد، متبيناً صورة الخطر عندما رأى هامة نحيفة مقبلة نحوه، وأعقبه هديل حمامة برية، تزجر صغارها، أو ربما تغازل رفيق العمر.
في هذا المكان بدت رائحة «الهمبو» تنزلق في حاسة الشم برواق، وتئدة، مختلطة بعطر اللوز اليافع، نافثاً بخوره الصيفي ببذخ، وخلف الهدير كان ذلك الكائن النبيل يخب بساقين نحاسيتين نحيلتين، ويده المبلولة كأنها رأسان لطائر نورس عملاق، ينقر صفحات الماء، ويراها على سنابل العشب، كي تسترخي تحت رشات البرودة، وتتلمظ عذوبة العيون الندية.
يسمع الرجل نداء رخياً آتياً من جهة الباب الخشبي المطل على فسحات الشارع الطيني، يرفع بصره، ويتلفت، كانت هي المرأة التي اعتادت حمل سلة السعف، على رأسها في كل يوم، مملوءة بذخيرة الرطب، وفي أول الطيف كان «الجش أعفر» هو بشارة القيظ، وهو أنملة العذوبة برضابها الشهي، وصفارها المؤدلج برونق اللون المدهش.
احتلت المرأة مكانها عند حوض الماء، وصارت تقلق الحشرات الصغيرة الحاطة على شفاه الحوض سعياً للبلل، وبينما هي تخوض بأناملها سطح الماء كان الرجل يلهو بغطسة عميقة في جوف الماء، ولما يرفع رأسه، بشعره الرصاصي يلمح عيني المرأة وهي تلوب بين محجريها كأنها بلورة في طاسة ماء، ينهض الرجل على عجالة، ويختبئ عند زاوية حجرة آلة الضخ، ثم يسفر عن وجه تهلل بابتسامة شفيفة، ليلبي حاجة المرأة، متحدثاً بوقار لم يخل من ملاطفة عفوية، وعندما وقفت المرأة، وأسندت السلة إلى كمامة الرأس، شكرت الرجل، وانعطفت تحدق في ثمرات اللوز المنثورة على الأديم كلآلئ، وكان الرجل الوفي قد أدخر لها بعضاً منها، كعادته مع الزبائن الدائمين أخذت المرأة نصيبها وأقفلت، تتخبط بين قنوات الماء ، وتجاعيد الطين، وتجاويف الحفر بين محيطات النخيل، بينما انهمك الرجل في مزاولة عمله اليومي، في مداعبة أطراف الجذوع، الصارمة، وسعفات انسدلت مرتخية، منسحبة عن خليلاتها، باتجاه الأرض.