منذ خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بعد عملية ولادة قيصرية معقدة، وهي تسعى جاهدة إلى إعادة ترتيب علاقاتها الاقتصادية والتجارية مع مختلف الدول والتكتلات الاقتصادية في محاولة منها لتفادي العديد من التداعيات السلبية التي تمخضت عن عملية الانسحاب من الاتحاد، والتي كان من آخرها أزمة الوقود والناجمة عن نقص سائقي الشاحنات بسبب هجرة السائقين من مواطني الاتحاد الأوروبي وعودتهم إلى أوطانهم بعد أن فقدوا الامتيازات التي كانوا يتمتعون بها في السابق والخاصة بمعاملتهم كمعاملة المواطنين البريطانيين. وهذا إضافة إلى نقل مراكز العديد من المؤسسات المصرفية والمالية الكبيرة وتحويل وجهتها نحو الدول الأوروبية التي تسابقت على استضافتها. وكذلك فقدان بريطانيا ومؤسساتها الاقتصادية للأفضليات التجارية التي كانت تتمتع بها ضمن المجموعة الأوروبية، بما في ذلك الوحدة الجمركية.
لقد تأثر الاقتصاد البريطاني بشكل عام والتجارة الخارجية بشكل خاص بعملية «البريكست»، خصوصاً وأنها تزامنت مع عملية التعافي من فيروس «كوفيد-19»، والانفتاح التدريجي للأسواق وارتفاع الطلب على السلع والخدمات، وهو ما شكل نقصاً في سلاسل الإمدادات وارتفاعاً كبيراً في تكاليف الشحن، مما زاد من الصعوبات التجارية التي يعاني منها الاقتصاد البريطاني، والذي لم يتجاوز حتى الآن كافة المصاعب المترتبة على عملية الخروج، وبالأخص المسائل الجمركية الحدودية بين جمهورية إيرلندا العضو بالاتحاد الأوروبي وإيرلندا الشمالية التي تمثل جزءاً من المملكة المتحدة.
وتزامناً مع السعي البريطاني، تسعى العديد من دول العالم وتكتلاته الاقتصادية للاستفادة من هذا التطور بعقد اتفاقيات تجارة حرة مع المملكة المتحدة، وذلك بعد أن واجهت مثل هذه الاتفاقيات صعوبات كبيرة في ظل قوانين الاتحاد الأوروبي المعقدة، حيث لم تتمكن دول مجلس التعاون الخليجي مثلاً على مدى ثلاثين عاماً من توقيع اتفاقية للتجارة الحرة مع الاتحاد.
وبالإضافة إلى نية بريطانيا لتوقيع اتفاقيات للتجارة الحرة مع الولايات المتحدة وأستراليا وتركيا، فإنها تسعى وفق وزيرة التجارة «آن-ماري تريفليان» لتوقيع اتفاقية مماثلة مع دول مجلس التعاون الخليجي، حيث اتخذت لندن بداية شهر أكتوبر الجاري أولى خطواتها بهذا الاتجاه بعد أن دعت الشركات البريطانية إلى إبداء رأيها بشأن ما ينبغي أن يشمله اتفاق التجارة الحرة مع الدول الخليجية. وهي دعوة مهمة لمشاركة القطاع الخاص في تحديد بنود الاتفاق، باعتباره الطرف المعني أساسا بالقطاع التجاري.
هذا ما يجري في الجانب البريطاني من تحضيرات تشير بوضوح إلى الأهمية التي تعلقها المملكة المتحدة على علاقاتها الاقتصادية والتجارية مع دول المجلس. 
السؤال الذي يتبادر هنا، هو ماذا بشأن استعدادات الجانب الخليجي لهذا التوجه البريطاني الذي سيساهم في إحداث نقلة مهمة للعلاقات التجارية التاريخية بين الطرفين؟ فالموضوع سبق وأن جرى الحديث عنه حتى قبل الخروج النهائي لبريطانيا وقد أشرنا إليه هنا، إلا أن الظروف الاستثنائية التي مرت بها دول المجلس ربما حدت من سرعة اتخاذ خطوات تحضيرية لوضع التصورات الخاصة بتضمين المصالح والمتطلبات الخليجية لاتفاقية التجارة الحرة. فهذه ليست كأي اتفاقية، فمحتوياتها ستحدد، ولسنوات طويلة قادمة، العلاقات الاقتصادية والتجارية مع واحد من أهم الاقتصادات العالمية، كما أن أثرها سيطال مختلف قطاعات الأعمال وسوف لن يقتصر على الجانب التجاري وحده، وهو ما دفع وزيرة التجارة البريطانية لدعوة الشركات والقطاع الخاص إلى المشاركة في تحديد بنود الاتفاقية المزمع توقيعها مع دول مجلس التعاون.
ويعني ذلك أن أهمية هذه الاتفاقية تستدعي بالضرورة إجراءات مماثلة من الجانب الخليجي، سواء من قبل وزارات التجارة أو من قبل الأمانة العامة لدول المجلس، مع ضرورة إشراك غرف التجارة في الدول الأعضاء واتحاد غرف التجارة الخليجي في عملية الإعداد، باعتبارهم ممثلين للقطاع الخاص. فالتحضير المهني البريطاني يفترض أن يقابله تحضير مهني خليجي لتحقيق أكبر استفادة من اتفاقية التجارة الحرة والتي يتوقع أن تترتب عليها نتائج إيجابية كبيرة للجانبين.
 
خبير ومستشار اقتصادي