تبدو سيدي بين السطور، في كل لحظة تمر فيها الشمس على جدران منزلك في تلك القرية المدلهمة، وتبدو أنت تتكئ على خاصرة أريكة قديمة في ذلك المنزل، وتطلق العنان للفكرة كي تسدد خطاها نحو غايات كنت رسمتها، دون أن تعلم بأن الكاهن الأجش يتربص بعمرك، ويترقب الأذن، هنا في هذه اللحظة سيدي، كنت أنا، وصديق حميم لنا نحن الاثنين، نقف عند طرف سريرك، وأنت تتأمل الزمن، وتسبل جفنين ذابلين يخبئان تحتهما رسائل جمة، ويفشيان عن حلم بحجم أزقة معيريض التي خضتها، ومشيت على أديمها، وخبأت أعقاب سجائرك تحت رمالها، ورفعت النشيد عالياً، تغني لأم كلثوم وعبد الحليم، وتترنم للحياة التي كنت تراها لامعة مثل بريق عينيك، كنت ترسم على صفحات العمر رحلة شاب استثنائي، من مهد التأملات في عيني امرأة عاشقة، إلى لحد فتى غرٍ لم يكمل آخر السطر، واكتفى بالتوقيع على الصفحة الأخيرة، باسم القصيدة التي رسمت معالم حياة كانت زاخرة بالأمنيات، مليئة بالدهشة، مفعمة بالحلم، ولم تكن تلك الأزقة سوى شرايين لمشاعر تدفقت، مثل أنهار مرت على تضاريس الزمن كأنها الوعي في ضمير الحقائق الراسخة.
محمود يوسف، رحلت باكراً، وبقيت الصورة في المشهد، كأنها الأيقونة في جعبة الأيام، ورغم كل الخطوات السريعة التي تحمل معها كل الذكريات، وتختفي، إلا أنك سيدي ظاهرة مختلفة، ولقطة مميزة على شاشة الزمن، تبدو مثل موجة علقت عند ساحل صخري، وبقيت تحفر في وجدان الرمل، وتطارد المحار كي يبقى ساكناً دون رجفة، أو خفة.
تبدو سيدي في خلد المكان أكبر من سطوره، وأوسع من عباراته، وأشمل من جمله، وأعم من كلماته، ولكن لماذا أكتب عن محمود يوسف، فقط لأنه البصمة الخارقة في تاريخ معيريض، ولأنه النجمة التي حلقت بأجنحة الضوء، وفجأة انطفأت، لتترك المكان مثل أطلال قبيلة أزدهرت، ثم ضمرت، وتلاشت.
يا إلهي كيف يمكن للنجمة أن تترك مكانها، ولا يبقى سوى الوميض في خاطري، يزحزحني، ويرج الفنجان في يدي، ويغسل جفني بلمح الدمعة الساخنة كلما، خطرت، وأن في الخاطر، وشم التواريخ المبجلة، ووسم الأيام الذاهبة في عميق الحنين.
أكتب عن محمود يوسف، لأن الكتابة عن شخصية مثله، هي تعميد للحب في قداسة النواميس مشرعة القيم والمبادئ.