عندما تستيقظُ في الصباحِ الباكر وتهرعُ إلى تناول فنجانَ قهوتك المفضل لا يعنيكَ ولا تتساءل في واقعٍ الأمرِ عن منبعِ القهوةِ وحصادها، وخطّ سير إنتاجها وتصديرها وصولاً إلى يديك كمستهلك، ولكن تصوّر أن تستيقظَ ذات صباح وتجدُ نفسكَ محروماً من نكهةِ قهوتك المفضلة، وعندها حتماً ستسأل عن سبب انقطاعها وعدم توافرها في الأسواق، وهنا بالتحديدِ سيقودكَ الفضول إلى التعرّفِ على العالمِ الغامض لسلاسلِ الإمداد والتوريد، والذي يرتبطُ بالأرضِ والبشرِ ومصانع التصنيع ووسائل النقل بكلّ أنواعها، وكل ما يرتبطُ بها من طرقٍ وممراتٍ ومسارات وتأمين وأمن وطاقة ومناخ وجغرافيا وتضاريس واقتصاد، وذلك من بدايةِ زراعةِ القهوة ووصولاً إلى شفتيك.

حيثُ تؤدي متحورات «كورونا» المستجد ومظاهر غضب الطبيعة إلى تقلبٍ في مخرجاتِ المزارع وإنتاج المصانع في مختلف قارات العالم وتعطل الشحن، مما يتسببُ في مزيدٍ من الصدماتِ للاقتصادِ العالميّ، ويضطر المصنّعون الذين يعانون نقص المكوناتِ الرئيسية وتكاليف المواد الخام والطاقة المرتفعة إلى تقديمِ تنازلات عديدة ومبالغ كبيرة؛ للحصولِ على مساحةٍ على متن سفنِ الشحنِ، ودفع أسعار الشحن إلى مستوياتٍ قياسية، ودفع المصدّرين إلى رفعِ الأسعار.
ولك أن تعرفَ عزيزي القارئ، أنَّ عدداً صغيراً من حالاتِ الإصابات بـ«كوفيد - 19» يمكن أن يتسببَ في اضطراباتٍ كبيرةٍ في التجارةِ المتعلقةِ بمنتج ما، وإغلاق الحكومات والشركات المسيرّة لموانئ الحاويات الأكثر ازدحاماً في العالم أرصفتها ومخازنها بعد اكتشافِ أنَّ عاملَ رصيف واحد قد أُصيبَ بعدوى «كورونا»، وبالتحديد بمتحور «دلتا» أو أحد المتحورات الأسرع انتشاراً والأكثر ضرراً، وبالتالي ازدحام الموانئ بشتى أنواع البضاعةِ، وتحول ازدحام الموانئ إلى الحالة الطبيعية لترتفعَ تكلفة إرسال حاوية من آسيا إلى أوروبا نحو 10 أضعاف مما كانت عليه في مايو 2020.
وفي الآونةِ الأخيرة تسببَ انتشار متحور «دلتا»، خاصةً في جنوبِ شرقِ آسيا إلى أن تآمرَ بعضُ الحكومات المصنعين بالسماحِ للعمالِ بالنومِ في مصانعهم، في محاولةٍ للحفاظِ على حركةِ الصادراتِ، لدرجةِ أنَّ شركةً عملاقة مثل «تويوتا موتورز» القوية أغلقت الإنتاج في الكثيرِ من مصانعها في جميعِ أنحاء اليابان، وخفضت الإنتاجَ بنسبةِ 40 في المائة؛ بسببِ اضطراباتٍ في الإمدادات، بما في ذلك نقص الرقائق، ولا يختلف الحال في أميركا وأوروبا والصين والهند وكوريا.. إلخ، حيثُ يميلُ كبارُ تجّار التجزئة إلى إبرامِ عقود طويلة الأجلِ مع خطوط الحاويات، لكنّ الإنتاجَ يعتمدُ على شبكاتٍ من عشراتِ الآلافِ من المنتجين الصغار ومتوسطي الحجم، خاصةً في قارةِ آسيا، وهم غالباً ما يقومون بترتيباتِ الشحن من خلالِ شركات الخدمات اللوجستية ووكلاء الشحن، والذين بدورهم يكافحون لتأمينِ مساحةٍ للعملاء، ولكن في الأخير تذهبُ المساحة في وسائلِ الشحنِ لمن يدفعُ أعلى سعر.
وبما أنَّ اقتصاد العالم مترابط فمن المتوقع أن تتفاقمَ الأزمة اللوجستية بسبب الكوارث الطبيعية ونقصِ الموظفين والإجهاد المفرط في أنظمةِ النقل، مع وجودِ أكثر من 20 مليون حاوية مكدسة في الموانئ حول العالم، ويمثّلُ هذا الرقم ما يقرب من نصفِ التجارةِ العالمية.
ولكَ أن تعلمَ أنَّ 42 في المائة من جميع الحاويات التي تصلُ إلى الولايات المتحدة تأتي من الصين، التي تعدُّ موطناً لسبعةٍ من أكبرِ 10 موانئ للحاوياتِ في العالم، وعندما تترنّح الصين يضع العالم يدهُ على قلبهِ ويتمنى ألا تستمرّ الكوارث الطبيعية في ظلِ تصاعد الطلب الاستهلاكيّ المتوقع بعد الوباء، والذي بدورهِ لغزٌ يحيرُ العالم، وهل ستؤدي رياحُ التضخم المصحوب بالركودِ إلى العبث بالاقتصاد العالميّ وتحيده عن مسارِ التعافي؟ لاسيّما أنَّ الانخفاضَ المفاجئ مؤخراً في إنتاج المصانع في الصين كان بمثابةِ تحذير واضح من أنَّ الاقتصادَ العالميّ قد ينهار، بينما لا تزال الأسعار ترتفعُ بسرعة، وهو يومُ القيامة الاقتصادية الذي يخشاه العالم.
كاتب وباحث إماراتي في شؤون التعايش السلمي وحوار الثقافات.