الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

د. عبدالله الغذامي يكتب: تجاور العصافير والشجر

د. عبدالله الغذامي يكتب: تجاور العصافير والشجر
9 أكتوبر 2021 00:50

تجاور الشجر والعصافير ولا ترى من البشر سوى المارة في الطرقات الريفية، وقد كانت من قبل تعيش في منطقة «سوهو» وسط لندن، حيث الضجيج واختلاط الأصوات والزحام واكتظاظ الحياة والناس مع أضواء المدينة وسهرها، بينما هي تستيقظ وتبدأ العمل عند الخامسة صباحاً حين تكون سوهو في إجازة مؤقتة من ضجيجها، وتعمل ماجي بين الريشة والأصباغ واللوحات بعضها لما تزل ندية وبعضها شبه منجزة وأخرى ربع إنجاز، مقابل خطاطات أولية على لوحات تنتظر لمسة من يدها وتدفقات من خيالها تتقافز من رأسها لتحط على هذه اللوحة أو تلك، ومثلها الألوان تشرئب نحوها وأي لون سيحظى بأن يكون سيد يومها، ولكنها غادرت الضجيج اللندني المتوحش لتعيش في توحش فطري طبيعي مع لوحاتها بعد أن ماتت أمها ومات أبوها، ولكنها لم تقطع صلتها مع الأموات فقد كان من غرائب ماجي أنها رسمت أباها وأمها وآخرين غيرهم وهم أموات في أكفانهم، إذ تفتح الكفن على الجسد المسجي وترسم الجسد الميت لتنقله إلى لوحة فنية تبقى عندها لتمنحها روحاً تراها وتسمعها وتخاطبها كلما اشتاقت لأحدٍ منهم.
واشتهرت بهذا العمل كما اشتهرت بمنحوتاتها عن مشهورات ومشاهيرَ من رموز الثقافة وأبرزهم تمثال «ماري وولستونكرافت»، النسوية الرائدة وأول من تصدت لحقوق المرأة في تمثيل نفسها وفي تحقيق اختلافها وتميزها، ولكن ماجي رسمت التمثال بجسد عارٍ مما أحدث ضجيجاً لاحق معظم منحوتاتها التي تخترق فيها المعتاد وتتحدى به التقاليد، ورغم الاعتراضات، فإن منحوتاتها تغطي ميادين لندن وصالات العروض الكبرى واسم «ماجي هامبلينج» يحتل صدارة الرأي والثقافة في بريطانيا.
هذه الفنانة القوية والصارمة في نظام حياتها وفي مواقفها توقع مذيع برنامج «هارد توك» على الـ BBC في ورطة لم يعهد نفسه تعجز عن المواجهة مع ضيوفه المتعادين، حيث غلط معها في آداب التعبير وطرح سؤالاً عن تحولاتها الفنية في «آخر عمرها»، فنظرت ماجي إليه بعينين كأنهما طلقات الرصاص، وقالت بصوت حاد ومباشر ونظرةٍ كالصاروخ المسدد: لو سمحت أنا لست في آخر عمري.. أنا لما أزل فتاةً شابة، فيتراجع المذيع مذهولاً من ردة فعلها وينتقل لسؤال آخر ينقذه من غضبتها، فقرأ مما هو مكتوب عنده ليسأل عما تخطط له في المستقبل، وهنا يأتيه جواب آخر يكشف الفرق بين التفكير الإعلامي المتعاطي مع الساسة والاقتصاديين والمتقاعدين من القيادات المؤثرة لتقول له: إن الفن يتعامل مع اللحظة «مع الآن» ولو نظر للماضي أو نقل بصره لما لم يأتِ، فإنه سيفقد اللحظة، وأي فنان يفقد اللحظة فلن يعبر عن زمنه ولن يكشف حقيقة الآن وستزول اللحظة دون أن ترصدها عينٌ ذكية لفنان ذكي، وهي حين نحتت تمثال «ماري وولستونكرافت» لم تكن تعود للماضي، وإنما تقف على الحركة النسوية في لحظتها التي ابتدأت مع ماري وهي جوهر الحركة وروحها. ومنذ القرن الثامن عشر حين فتحت ماري أول مدرسة للبنات والحركة النسوية في حالة «الآن»، وحين تضع التمثال بصيغة التحدي عبر جسدها، فهذا لكي تقول: إن الحقوق ليس لها زمن محدد، وإنما هي الزمن كله.
وتنتهي المقابلة مع دروس في التحدي حتى في صيغة الإجابات، والمذيع الذي تعود على مراوغة ضيوفه من قادة سياسيين وقادة مجتمع وجد نفسه مع فنانة تعيش مع الطيور والشجر، وتؤثرها على ضجيج «سوهو» وبهرجة ليالي سوهو، وفي الوقت ذاته تتحدى الساسة وتوحشهم وحروبهم وتحويلهم للعصر الحديث ليكون عصر حروب وتدمير وتوحش اقتصادي وجشع مادي يقتل البيئة ويقتل البشر والحياة.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©