الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
علوم الدار

«الأمازون» في دبي.. تجربة تفاعلية لأكبر أنهار العالم في «إكسبو 2020»

«الأمازون» في دبي.. تجربة تفاعلية لأكبر أنهار العالم في «إكسبو 2020»
8 أكتوبر 2021 01:27

نوف الموسى (دبي)

المُلاحظة الأولى لدى الصحفي، تشبه في وقعها على الروح والفكر، شعور الانطباع الأول لدى المتلقي، فيها شيء من سحر اللحظة وتأثيرها على سير الحياة اليومية، إنها بمثابة الأغنية القابعة في الفكرة، لذلك فإن النظرة العابرة نحو الشباب الإماراتيين وهم يرفعون أثوابهم البيضاء «الكنادير»، ويغمرون أقدامهم حتى الركب، في تلك المياه المُستلهمة من فترات الفيضانات في نهر الأمازون - أكبر أنهار العالم - في الجناح البرازيلي في «إكسبو 2020»، يذهب بظلاله بعيداً إلى أهمية ذاك الإحساس بالماء، المصدر الطبيعي الأهم على وجه الكرة الأرضية، مشكلاً أحد الموضوعات الرئيسة في معرض «إكسبو 2020». ظل الزوار يتحركون في النهر، خاصة الأطفال، الذين لا يترددون في القفز مباشرة في الماء، ضمن فضاء متكامل من المؤثرات المرئية للحياة الثقافية والاقتصادي والاجتماعي في البرازيل، المستمدة من أجواء الغابات المطيرة المحيطة بنهر «ريو نيغرو»، الذي يعد أكبر رافد من نهر الأمازون، بل وأكبر نهر ذي مياه سوداء في العالم، ما يجعلها تجربة تفاعلية بامتياز، تعود بنا إلى عمارة الجناح البرازيلي في «إكسبو ميلان 2015»، ودراسة المقاربة الجمالية عن المكون الرئيس الذي يقود روح مشاركة البرازيل في إكسبو، واستحضار قيمة التمازج بين المعرفة العلمية لأبعاد التضاريس والمناخ الجغرافي، وبين الفعل الثقافي لعادات وتقاليد وديانات أهالي القرى الريفية من جاوروا بمساكنهم نهر الأمازون، وصولاً إلى الحكايات والقصص الأثيرية، حيث يعيش الزائر للجناح البرازيلي إحدى تلك الحكايا، من خلال أن تتاح له فرصة أن يضع أمنياته في شريط يمتلك قوة تحقيق ثلاث رغبات للشخص، يتم ربطه عادة على الرسغين أو الكاحلين أو قضبان الكنائس، كونه اعتقاداً سائداً في سالفادور بولاية باهيا البرازيلية، وبذلك يستمر الجناح في إيضاح مسألة بناء الذاكرة والتفاعل الاجتماعي للحفاظ على الطبيعية الأم، فالإنسان يحتاج دائماً لرابط وجودي عميق يُذكره بمصدر حياته على الكرة الأرضية، والقصة بكافة أشكالها الإبداعية قادرة على تحقق ذلك.

 

نفيض جميعاً عبر النهر
المقدرة البديعة على الربط بين المعمار والحياة البرية والمعتقد الإنساني، هي مسألة إيمان بالدرجة الأساسية، فما يمكن ملاحظته في الجناح البرازيلي هو السريان المتأصل للروح في علاقتها مع الأرض، لذا اعتمد المهندسون والمصممون في جعلنا جمعينا نفيض عبر نهر الأمازون، لأننا نحتاج إلى التجربة لإدراك الإيمان، بمثل فعل الصلاة التي هي فضاء حُر لتواصل الكوني، ومتى ما توافرت تلك الفضاءات التفاعلية يبدأ الإنسان بسرد قصته المتفردة، ويحولها إلى سيمفونية تتخذ من نفسها حالة في السرد الجمعي، وقد استكملت البرازيل جماليات صناعة تلك المساحات المفتوحة، التي تضمن المشاركة التعددية، بين مختلف الثقافات واللغات والأديان والأعراف، فبينما جعلت العالم في «إكسبو 2020» بمدينة دبي، ينغمرون جميعهم في نفس المياه، وفي ذات اللحظة الآنية، فقد صنعت في «إكسبو ميلان،» شبكة مرنة وسلسة لامركزية، مشى عليها الزوار وقتها، بتمايل بين الحين والآخر، واستمتع الأطفال وهم يركضون في ساحة شبكية عامة تذهب بهم لفضول غير متناهٍ نحو مسارات أدت إلى نباتات مزروعة في البرازيل، ناقشت فيها موضوعها الرئيسي: «إطعام العالم بالحلول»، فيها انتقال تدريجي بين الداخل والخارج، ما يمحو الحدود التي تفصل بين العمارة والسينوغرافيا، وهو بالضبط ما يمكن استشفافه في الجناح البرازيلي المشارك في إكسبو 2020، حضرت المياه بطبقة رقيقة مدروسة، تفيض بشكل يتراءى بأنه عشوائي وعفوي، إلا أنه ينحدر من أسفل الجناح ويتحرك طوال سير الزوار بتجاه مركزية المياه في قلب الجناح.

 

يتحرَّك بعض الزوار في المساحة المظللة الموجودة في الجناح البرازيلي، لأوقات طويلة واقفين، وأحياناً يحركون تلك المياه بأقدامهم قليلاً، وتتولد أمواج صغيره على سطح الماء، وليس سبب البقاء لأنها باردة فقط، وتشعر الأشخاص بالاسترخاء، بل لأنها استطاعت بنجاح أن تسحب طاقة اهتمام الناس للمياه، للأرض، مثلما هو إحساس الشاعر البرازيلي فينيسيوس دي مورايس، عبر «سوناتا الألفة» يقول فيها: «إلى الغدائر الصغيرة في قاع النهر، لأشرب الماء البارد والموسيقى، وإذا لطخت بالفرشاة بقعة متوهجة من الأحمر، فهي حبة توت، تلفظ دمها على الزريبة»، ما يجعلنا نتساءل: هل الطريقة التي استمدها المعماريون في بناء الأنماط الجمالية للجناح البرازيلي، هي الأخرى تجعلنا نستشف الأبعاد الحضارية لما أسماه علماء الآثار بـ «الفترة التكوينية»، التي شاركت المجتمعات الأمازونية في ظهور النظم الزراعية في مرتفعات أميركا الجنوبية، مساهمةً بصورة مباشرة في تأسيس النسيج الاجتماعي والديني لـ «حضارة الأنديز»، وتحديداً إمبراطورية «الإنكا»، - أكبر الإمبراطوريات في أميركا الجنوبية - من بنوا مدينة الشمس المقدسة فوق جبال الأنديز، والذي يقودنا لتأملات نوعية من خلال الإطلاع على صور جوية علوية، يظهر فيها التمدد والتداخل، والتغير في مسار المياه، حيث قد تتوقف بعض تلك المسارات عند الغابات الماطرة، وقراءة مدى تأثير التشكلات المختلفة والمتغيرة لجغرافية نهر الأمازون، في نشوء المكون الاجتماعي لدى البرازيليين في بناء أنظمتهم الاجتماعية، من مثل علاقتهم بأكبر أسماك المياه العذبة التي تعرف لدى البرازيليين باسم بيراروكو «آرابيما جيجاس» (Arapaima gigas)، والتي واجهت البرازيل تحديات انقراضها، وعملت على وضع استراتيجيات لإدارة مستدامة للحفاظ عليها، واستمرارية انتعاش المخزون الخاص بهذا النوع من الأسماك المهمة لبيئة نهر الأمازون؟

تنوع لانهائي
في الحقيقة الدخول لأعماق المياه المغمورة في الجناح البرازيلي، يجسد للزائر التعددية الطبيعية والتنوع اللانهائي ليس للكائنات الحيّة التي تعيش في عمقها أو فوق سطح النهر، ولكن أيضاً لطبيعة الأنهار التي تشكل سلسلة من التداخل تتشارك فيها العديد من الدول، أبرزها «بيرو» و«الإكوادور»، ويعتبر المنبع الرئيس لنهر الأمازون هو نهر «مارانيون»، الذي يتدفق من أعلى وسط بحيرة «لوريكوكا» في بيرو: أنهار جليدية يطلق عليها اسم «نيفادو دي ياروبا»، إذاً فإن موضوع المياه في «إكسبو 2020» هو دعوة أساسية نحو التعددية، والقدرة العالية على التكيف والقبول والانسجام بين مختلف ثقافات العالم، لأننا جميعاً نتشارك عبره قيمة الماء في تجربتنا الإنسانية، ولأن حضوره في بقعة جغرافية معينة يحدد شكل إبداعنا ومنجزنا الحضاري، فمن المهم التعرف على أفضل الممارسات العالمية، للتصدي لأزمات المياه، وإعادة اكتشاف مبادرات تكثيف الضباب لجمع مياه آمنة لمناطق جافة تعاني من شح المياه، وذلك ضمن كيانات فاعلة لمؤسسات تشارك في «إكسبو 2020»، تُلهمنا نحو وعي جديد فيما يتعلق بأمن المياه.
في قاعة العرض الداخلية بالجناح البرازيلي، المُستلهمة من البيوت القاطنة على ضفاف نهر الأمازون، قدم شخصان عرضاً حيّاً، يرتدي فيه المؤدي لبساً ينسج شكل الأسد في الحياة البرية، لم يكن العرض بمثابة إلهاء للأطفال أو إشغال الكبار بعرض ترفيهي، وإنما تملك المؤديان روعة الحركة الأدائية للأسود، الممتلئة بالصمت التام، الذي يشعره الزائر، إذا ما زار الغابات الماطرة هناك في البرازيل، يتحرك فيها المؤدي بسلاسة مجسداً لحظة استلقاء الأسود، بعد وجبة غداء، تهدي الأسود شعور الراحة في البراري الواسعة، محدثاً العرض حالة مسرحية في زاويا معرض مليء بالفوتوغرافيا الموثقة للحياة الطبيعية في البرازيل، لم يسأل أحد عن رمزية الأداء البطيء الذي يعمده المؤديان للعرض، إلا أنهما عكسا تماماً الإيقاع الخاص بالحياة البرية شبه المفقودة في الحياة الحضرية الحالية، وقتها أراد المؤديان أن يقترب الجمهور ويتوقفوا قليلاً، بينما يميلان بجسدهما على الأرض، وينجحان في أن يتصل الجمهور معهما، عاكسين حاجة الطبيعة رغم هيبتها وقوتها، إلى طاقة الاتصال الإنساني، الذي من خلاله يحدث الابتكار والإبداع والتطور للبيئة الطبيعية، حالة من البحث لاستكمال دائرة الحياة.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©