أدى الإعلان عن المشروع الصيني العملاق «الحزام والطريق» إلى احتدام الصراع للسيطرة على مسارات التجارة الدولية؛ فبعد مضى سنوات قليلة على بدأ تنفيذ المشروع الصيني العالمي أخذت ملامحه الأساسية في البروز، وذلك بعد استثمار مبالغ كبيرة وانضمام عشرات الدول لهذا المشروع.
ومع أننا أشرنا في مقالات سابقة إلى أن بلداناً وتكتلات أخرى سوف لن تقف مكتوفة الأيدي، وهي ترى التنين الصيني يعزز نفوذه للتحكم في طرق التجارة الدولية، فإن تحرك الأطراف الأخرى تم بسرعة قياسية أوجدت خلافات وتفاوتات حتى بين الحلفاء السابقين، كما جرى بين الولايات المتحدة وفرنسا بسبب صفقة الغواصات لأستراليا، والتي لا تخرج عن نطاق بسط النفوذ في أعالي البحار.
ولنأخذ على سبيل المثال القراءة الأميركية للصراع القادم، فمساعدو الرئيس الأميركي، وفق «بلومبيرغ»، يرون أن مبادرة «الحزام والطريق» تحولت إلى حجر الزاوية في استراتيجية السياسة الخارجية لبكين، فالمبادرة ضمنت للصين المواد الخام وخطوط التجارة والنفوذ السياسي؛ ففي باكستان وحدها استثمرت الصين 60 مليار دولار في هذا المشروع.. معلنين أن إدارة بايدن تنوي منافسة مبادرة «الحزام والطريق».
أما بريطانيا، فقررت الانضمام إلى الاتفاق الشامل والتقدمي للشراكة عبر المحيط الهادئ والذي تعتبره جزءاً مهماً من خططها التجارية، كما تنوي توسيع نشاط البحرية الملكية البريطانية في القطب الشمالي لاحتواء الخصمين الاستراتيجيين روسيا والصين.
وفي نفس الوقت دخلت روسيا بقوة حلبة المنافسة معلنةً عن مشروع «جنوب- شمال» الذي سيربط أقصى الشرق بأوروبا من خلال القطب الشمالي، والذي يتوقع أن يؤثر على قناة السويس.. يساعدها في ذلك التغير المناخي وذوبان الثلوج، علماً بأنها تملك خبرات تكنولوجية فريدة في بناء سفن كاسحات الجليد.
وبالإضافة إلى هذه التطورات التي أوردناها بصورة مختصرة جداً، فإن صراعات خفية تدور بين تلك الأطراف، بما في ذلك عمليات التجسس والاستهداف، فالصين التي ضخّت استثمارات ضخمة في أفريقيا لإنتاج المواد الخام وإقامة بُنى أساسية للتجارة إلى درجة أنه لم يكن بإمكان شركات الدول الأخرى، بما فيها الأميركية والأوروبية، دخول السوق الأفريقية دون إشارة خضراء من بكين، إلا أنها تعاني الآن في أفريقيا أكثر من أي مكان آخر بسبب تعرض مشاريعها لتعقيدات إدارية اضطرت معها إلى الانسحاب من بعض المناطق.
المهم أن القوى العالمية الكبرى تشحذ سكاكينها لمرحلة صراع قادمة، وذلك من خلال تطوير قدراتها العسكرية البحرية من جهة وتقديم إغراءات للدول الفاعلة للانضمام إليها من جهة أخرى، مما يفسر التطور المذهل للبوارج والغواصات النووية وتبادل مواقع الحلفاء السابقين ومحاولة جذب وكسب حلفاء جدد أكثر تأثيرا في إمدادات خطوط التجارة الدولية. فزيادة الاهتمام الأميركي بمنطقتي المحيط الهادئ والمحيط الهندي لم تأت من فراغ، فهاتان المنطقتان ستكونان في عمق الصراع القادم لمسارات التجارة المستقبلية. فالهند، الحليف التقليدي لموسكو، دخلت الآن في حلف جديد مع الولايات المتحدة واليابان وأستراليا («كواد»)، مما أزعج بكين.. في حين تجمع مصالحٌ استراتيجيةٌ تركيا -العضو في حلف «الناتو»- مع روسيا، مما أثار غضب واشنطن والاتحاد الأوروبي التائه في خضم هذه الصراعات!
والأمر الخطير في هذا الصراع يكمن في سماع قعقعة السلاح المرافق له، وذلك على عكس الصراعات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، والتي تميزت بالطابع السلمي، كالمنافسة الاقتصادية التي أنهكت الاتحاد السوفييتي في نهاية المطاف، مما يعني أن كافة بلدان العالم ستجد نفسها أمام تحديات في وسط صراع ومنافسة شرسة بين قوى كبرى تسعى للهيمنة والتحكم في خطوط إمدادات التجارة، وبالأخص إمدادات الطاقة والمواد الخام، مما يستوجب الاستعداد للسير على حبل السيرك الدقيق، من خلال مسك العصا من وسطها والاحتفاظ بعلاقات توازن مرنة بين هذه القوى تحفظ المصالح الوطنية للدول. 

مستشار وخبير اقتصادي