بعد خطوات إيجابية عدة بدأت في الربع الأخير من السنة الماضية بدا وكأن الصراع الدائر في ليبيا يتقدم على غيره من الصراعات في المنطقة على طريق التوصل لتسوية سياسية، بدءاً من الاتفاق على وقف إطلاق للنار مروراً بالتوصل لخريطة طريق تنتهي بإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية في ديسمبر القادم، وانتهاءً بالنجاح في التوصل لحكومة وحدة وطنية أنهت ازدواجية السلطة التنفيذية لوجود حكومتين إحداهما في الشرق والأخرى في الغرب، وانتخاب مجلس رئاسي جديد. وقد ساد حينَها نوع من التفاؤل النسبي رغم وجود عددٍ من المعوقات التي ألقت بظلال شك على إمكانية المضي في خريطة الطريق إلى نهايتها. وكان أول هذه المعوقات هو وجود القوات الأجنبية والمرتزقة وفوضى الميليشيات، رغم قرارات مجلس الأمن، ولم يكن الأمر يحتاج لنفاذ بصيرة كي نتخوف من هذا الوجود العسكري على نزاهة الانتخابات، ونتحسب لإمكان الانقلاب على نتائجها، غير أنه اتضح بعد ذلك أن ثمة قوى سياسية صاحبة مصلحة في تعطيل الانتخابات؛ لأنها تخشى من أن تأتي بنتائج تقوّض نفوذها السياسي الراهن. ولذا بذلت تلك القوى قصارى جهدها لكي تضع العصي في عجلات قطار الانتخابات. ثم بدأت المعوقات تتخذ منحىً أخطر بظهور بوادر صدام بين التشكيلات العسكرية الموجودة في الغرب، بما يعني أن أحد طرفي الصراع الرئيسيين يعاني انقسامات داخلية، أي أنه بدلاً من الحديث عن استعادة وحدة الدولة الليبية، ظهرت مهمة جديدة تتمثل في رأب الصدع داخل أحد الطرفين المتصارعين من أجل السيطرة على ليبيا.
ثم بدأت مرحلة جديدة من تعثر التسوية بالخلاف الذي دب بين البرلمان الليبي وحكومة الوحدة الوطنية، وقد بدأ هذا الخلاف بانتقادات برلمانية لأداء الحكومة وصلت في النهاية إلى وسحب الثقة منها، ورد رئيس الحكومة بمهاجمة البرلمان ودعوة المواطنين إلى التظاهر ضده، ولا يعنيني هنا أن أحدد المخطئ والمُصيب في هذه الأزمة الجديدة، ولست أصلاً في موقف يمكنني من ذلك، غير أن ما يعنيني هنا أن العلاقة بين طرفي الصراع المحليين قد وصلت إلى درجة من التدهور تكاد أن تجعل من الحديث عن استكمال خريطة الطريق انتهاءً بالانتخابات ضرباً من الخيال، فكيف يقبل البرلمان ما سوف تضعه الحكومة التي سحب الثقة منها من ترتيبات للانتخابات؟ وكيف تحصل الحكومة على ما تحتاج إليه من تشريعات لازمة لإجراء الانتخابات من برلمان دعت الشعب للتظاهر ضده؟ والمشكلة أنه عادة ما يظهر في تطور هذا النوع من الصراعات «قوة ثالثة» تتسم بالاعتدال، وتعمل على رأب الصدع، لكن عين المراقب لا يمكن إلا أن تدرك غياب مثل هذه القوة ربما انعكاساً لدرجة الاستقطاب العالية في الصراع. كما أن المجتمع الدولي فاقد تماماً للقدرة على التأثير في مجريات الصراع، بدليل عجز مجلس الأمن عن فرض احترام أبسط قراراته المتعلقة بمنع تهريب الأسلحة والمرتزقة إلى ليبيا.
يبدو مستقبل عملية التسوية الليبية محاطاً بشكوك قوية حول إمكان المضي في خريطة الطريق إلى نهايتها، وليس ثمة إمكانية سهلة في ضوء الاستقطاب الداخلي الحاد لإجراء حوار يتجاوز التدهور المتزايد في العلاقة بين طرفي الصراع، كما أن الأمل مفقود بسبب تضارب المصالح في أن تكون هناك مبادرة دولية فعالة لحماية مسار التسوية. وقد رأينا تعدد الملتقيات الدولية بشأن ليبيا واتخاذها قرارات على طريق الحل لم يُتَرْجَم أي منها على أرض الواقع حتى الآن. فهل نأمل في أن تتصدى القوى العربية الفاعلة الحريصة على وحدة ليبيا واستقلالها وعروبتها للأزمة الراهنة في مسار التسوية الليبية؟ وأن تعيد قطار التسوية إلى مساره الصحيح امتداداً لدورها الناجح السابق في مواجهة المخاطر الداخلية والخارجية على أمن ليبيا وسلامتها؟

أستاذ العلوم السياسية -جامعة القاهرة