كلما حضرت أمسية شعرية، أو معرضاً تشكيلياً، أو ملتقى قصصياً، أو روائياً أو حفلاً موسيقياً، أتساءل: لماذا يكون فلان شاعراً وآخر قصاصاً، وآخر روائياً، وآخر فناناً تشكيلياً، وآخر موسيقياً؟، ولماذا يحدث أن يكون إنسان ما مختلفاً عن الآخر في طريقة تعبيره عن ذاته وعن ظواهر عصره، وعن الحياة والكون والكائنات والوجود.
فإذا كانت هذه الأشكال هي تعبير عن رؤية الإنسان للحياة، فهل يعني هذا القول إن الشاعر إنما يكتب الشعر لأنه يرى الحياة على شكل قصيدة وفحواها واشتباكاتها وغموضها، إيجازها واكتنازها، وأن الروائي يرى الحياة في شكل رواية لها شخوصها وزمنها ومكانها وأحداثها، وأنه أقرب بذلك من جميع الفنانين إلى الواقع، كما نسمي ما يدور حولنا في توصيف فوتوغرافي، أي أنه أقرب إلى الواقعية مهما تنوعت مسارات الرواية ومدارسها، أي أن الرواية تناصّ مع الواقع. وأن الفنان التشكيلي يرى الحياة خطوطاً وألواناً تتداخل وتفترق، تتكور وتستدير وتستقيم، والألوان تتمازج وتتنافر وتتجاذب، والنحات يرى الحياة كلها «خام»، وإنما وجد هو لكي ينحتها بإزميله كي تتجسد على هيئة وشكل. وأن الموسيقي يرى أن الحياة إشارات صوتية يدوزنها على هواه وقوانينه كي يحيلها إلى تناغم وتعبير هارموني، ينهض بالذاكرة والوجدان. لكن ألا تنطبق هذه الرؤية على كافة أشكال الممارسات الإنسانية؟ فالطبيب قد يرى الحياة مريضاً، أو مليئة بالأمراض وهو موكول بشفائها، والتاجر يرى الحياة سلعة ونقوداً.
أليست الحياة من هذا المنطلق إذن لا شكل لها ولا ثبات في منطقها، أو أنها أشبه بصلصال رطب يشكله كل كائن إنساني وفق رؤيته ومزاجيته وتكوينه النفسي ووعيه وإدراكه وثقافته وحضارته؟
أليس مفهوم الواقع والمرئي من الظواهر مفهوماً ملتبساً هو آخر؟، نحن نقول عادة حين الشكوى: لم تنصفني الحياة، أو لا حظ لي في الحياة، وفي حالة الغبطة: نقول أنا شخص محظوظ، أعطتني الحياة كل شيء، وفي كل المقولتين تصير الحياة كأنها كائن موجود له قدرة أن يعطي ويأخذ، ونحن أمامه في امتحان وصراع، كأنه ليس نحن، ليس وقائعنا، ليس أفعالنا، إنها هيئة وشكل، لكننا لا نستطيع أن نرى ملامحها وكينونتها، كأنها كائن آخر، يسير على قدمين، وينتشر في كل مكان وزمان! وعندما نقول عن شخص ما إنه مات وفقد حياته، فإننا نعني أنه ذهب لوحده، بينما بقيت الحياة موجودة في الآن ذاته، لأن الحياة هي الطاقة المنبعثة من الحركة، وحين السكون، ليس ثمة حياة!‏