تعاني أسواق المال الخليجية «البورصات» من شح كبير في السيولة، وذلك رغم بعض الإجراءات التشجيعية التي كان لها تأثير محدود في جذب المتعاملين، مما يعني أن هناك عوامل أخرى أدت إلى انحسار السيولة، لا بد من معالجتها للمحافظة على الدور التنموي المهم لأسواق المال.

وفي مقدمة هذه العوامل الواجب معالجتها تأتي الحوكمة، فأسواق المال الخليجية ما زالت تفتقر إلى التشريعات والأنظمة والقوانين التي تنظّم عملها للحد من التعاملات الطاردة للمستثمرين، سواء المحليين منهم أم الخارجيين، والتي أدت مع مرور الوقت إلى ارتفاع عدد النافرين من التعامل، بعد أن خسروا معظم مدخراتهم في تعاملات تسودها الضبابية وضعف الحوكمة.

والمشكلة هنا تكمن في تكرار سيناريوهات المضاربات غير المتكافئة والمبنية، إما على قوة المضاربين المالية أو على تسريبات إدارات الشركات المدرَجة دون محاسبة. حدث ذلك بعد الانهيار الكبير للأسواق منتصف العقد الأول من الألفية وتكرر منتصف العقد الماضي، وما زالت تداعياته مستمرة، علماً بأن المضاربات المقننة مسألة طبيعية بالنسبة للأسواق، وذلك إذا ما تمت مراقبة الخروقات القانونية والإدراية، مما يتطلب إعادة نظر شاملة في التشريعات والقوانين التي تنظم هذه الأسواق، وتشديد المراقبة القانونية، وتطبيق القوانين في حال التجاوزات.. لإعادة الثقة للمستثمرين وحثّهم على العودة للتعامل في البورصات. فمعدل النمو الشهري للقيمة السوقية لأسواق المال الخليجية بلغ 2.1% فقط في شهر أغسطس الماضي وفق المركز الإحصائي لمجلس التعاون، مقابل 13% كارتفاع لبورصة «ناسداك» الأميركية بداية العام الجاري.

الأمر الآخر يتعلق بهيكلية البورصات، والتي تتكون أساساً من البنوك والشركات العقارية والخدماتية، في ظل تواجد ضعيف للشركات الصناعية وشركات التقنيات الحديثة، حيث تتأثر البنوك والقطاع العقاري بسرعة كبيرة جراء الأزمات التي كان آخرها أزمة «فيروس كورونا»، مما يتطلب إدراج المزيد من الشركات الإنتاجية التي تساهم في توازن الأسواق، علماً بأنه تتواجد في بعض الأسواق الخليجية شركات صناعية مهمة ولها ثقلها، كما أدرجت مؤخراً بعض الشركات الفرعية لقطاع النفط في بعض دول المجلس، إلا أن ثقلها من مجموع الشركات المدرجة ما زال متواضعاً.

ومن جهة أخرى، هناك تعقيدات في الإجراءات الإدارية تخص المتعاملين وتتكرر هذه الإجراءات بين فترات زمنية قصيرة، كالبيانات الخاصة بالمتعاملين والتي ترهق المستثمرين الذين يجدون تسهيلات أكثر في الأسواق الخارجية، وبالأخص الأوروبية والأميركية المتميزة بالشفافية والإفصاح وقوة الحوكمة، مما يمنح المستثمر ثقة وطمأنة أكبر على استثماراته.

وبالإضافة إلى هذه الجوانب الاقتصادية والقانونية، فإن لأسواق المال دوراً اجتماعياً مهماً للاستقرار والتنمية، فالبورصات عادة ما تساهم في توسعة وتقوية الطبقة الوسطى بالمجتمع والتي تلعب دوراً حاسماً في الاستقرار، فكلّما قوّيت هذه الفئة ترسَّخ الاستقرار والتنمية، وكلّما ضعُفت وانضمت أعداد منها للفئات الأدنى ضعُف الاستقرار وتأثّرت التنمية، وهو ما دفع مصر وفق «بلومبيرغ» للعمل لانضمام 30 مليوناً مصرياً للطبقة الوسطى حتى عام 2030، علماً بأن الأزمات السابقة في أسواق المال الخليجية ساهمت في تقلص هذه الفئة بعد أن فقدت معظم مدخراتها، وهو أحد الأسباب الرئيسية لانحسار السيولة وتقلص عدد المتعاملين في هذه الأسواق.

لذلك، فإن الإجراءات الأخيرة التي اتخذتها بعض البورصات لتشجيع التعامل وتنشيطه سوف لن يكون لها تأثيرات ذات أهمية كبيرة في ظل استمرار ضعف الحوكمة والشفافية والإفصاح والمحاسبة، والتي في حالة معالجتها يمكن أن تساهم في استعادة الثقة المفقودة، وذلك بالإضافة إلى ضرورة دعم هيكلية الأسواق، من خلال تشجيع إقامة شركات إنتاج مشتركة بين القطاعين الحكومي والخاص، والذي ما زال يتمتع بسيولة كبيرة لا تجد لها منافذ استثمارية داخلية، مما يفسر تنامي الاستثمارات الخارجية للقطاع الخاص الخليجي. ونظراً لكل هذه الأهمية لأسواق المال، فان الأمر يتطلب سرعة معالجة القضايا التي تعاني منها لجذب استثمارات المدخرين والمستثمرين، وتعزيز الثقة لتعزيز دورها التنموي المهم، والذي لا غنى عنه لدعم الاستقرار الاجتماعي بدول المجلس.

*مستشار وخبير اقتصادي