الأصوات التي تأتي من بعيد، الأصوات التي تأتي من الغياب، تلك التي تحضر فجأة في صباحاتك أو المساءات الجميلة، الغائبة التي تفاجئ مناسباتك الصغيرة وتفاصيلك الصغيرة، والتي قد لا يعلمها غير من مرّ على بساتين قلبك عند اخضرار الأرض وتلون اللحظات الجميلة بالزهور والورد.
الأصوات التي تغيب في النسيان، ومشاغل الزمان، ودوران الحياة وتعبها أو انشغالاتها الكثيرة، الأصوات التي اعتقدت أنها غابت وانتهت مع الزمن وتبدل الوجوه والأمكنة، وفي ومضة خاصة ولحظة خاصة توقظك من الهجر الطويل، كيف تعيد تلك الذكريات نجوما أفلت أو اعتقدت أنها رحلت بغير رجعة، وأخذتها زحمة الحياة والتعب خلف العيش أو تبدل كل شيء في أزمنة تمضي سريعاً مثل ومضة برق.
تمر الأيام ولا تترك للبعض فرصة للعودة إلى البدء إلى الحياة والمحطات الجميلة التي مرّت به، صحيح أن لا شيء يعيد اللحظات تماماً كما كانت، ولا يمكن ترتيب الوقت حسب الأماني والأحلام والذكريات المهاجة إلى البعيد.
ولكنْ للأصوات الخاصة جداً في الذاكرة أجراس قوية وبراكين شوق وأحلام حلقت إلى البعيد، أصوات من طبع وشماً يوماً في القلب عندما تأتي من البعيد من الغياب من الهجر أو النسيان قد تهد كيانك وتهز حياتك...
قالت لي: لم أنم البارحة، ولم أفكر غير أن أحمل حقيبتي وأسرع للمطار، وأبحث عن أول طائرة تحملني إلى بلدي، لم يعد القلب يحتمل، طال الغياب عن جزء من قلبي الذي يسكن هناك، أخذتني الأيام والعمل والجري خلف الرزق وتوفير حياة أفضل للصغار وهزيمة الفقر الذي يحتل قريتي البعيدة، هنا بلد جميل، ولكن لا يساوي لحظة ضمة لصغيري، أيقظني صوته آخر الليل، أمي تعالي لا أريد أي شيء سواك، لا أريد طعام أو ملابس أو أي هدية إنني أشتاق إليك ولا أحتمل لحظة غيابك، سوف أساعدك، قالت: هنا لم يحتمل قلبي الجلوس يوماً واحداً، بل ساعة واحدة، إن كان لديك معروف أو شيمة أوصلني بلدي هذا اليوم، بل هذا المساء...
أجراس أصوات الغياب الأصوات التي تأتي من البعيد والأعماق تعجز أن تفعل لها شيئاً غير اجترار الذاكرة وإعادة زمنها، ولحظتها التي غابت مثل نجم وحضرت فجأة مثل بركان نار.
البعض لا ينساك، ولا ينسى اللحظات الجميلة، أو المشتركات العذبة، حتى وإن كانت من زمن بعيد، تحضر في تداعياته الصغيرة والمختبئة في طي النسيان، قد تفاجئك في وقت وزمن أنت لا تتوقعه، وقد تفعل أنت أيضاً لآخرين لهم محطات صغيرة في الذاكرة والقلب، وقد تتفتح في القلب كل الزهور لحظات وذكريات رائعة تحضر، ثم تغيب وتعود إلى واقعك وحياتك الجديدة، ثم تصارع الحياة واستمرار العيش بواقعية الزمن المعيش والحاضر بكل ظروفه وظروفك، إنها دورة الحياة وصيرورتها بين الواقعية والأحلام، بين ذاكرة جميلة مضت وتوقعات جديدة وجميلة سوف تحضر.
نحتفظ للأصوات التي نحبها وغابت في البعيد بكل العشق ونحلم بأصوات جديدة تعوّض الذي طاف بنا يوماً، هكذا الحياة تمضي ونحن راحلون خلف الجميل فيها.