الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
علوم الدار

إبداع «مونيه» يضيء جناح فرنسا

إبداع «مونيه» يضيء جناح فرنسا
20 سبتمبر 2021 01:46

نوف الموسى (دبي) 

لما يغطي الفرنسيون سقف جناحهم في «إكسبو 2020»، وواجهته الخلفية بطبقة من الألواح الشمسية المفعمة بالألوان المستلهمة من مجموعة لوحات «زنابق الماء» الشهيرة، لرائد المدرسة الانطباعية الرسام الفرنسي كلود مونيه «-1840 1926»، ممثلةً تمازجاً ضوئياً مع الموضوع الجوهري لـ«الاستدامة»، كيف يمكن أن نرى لـ«أعمال فنية»، دوراً أساسياً في الاستشفاف اللحظي والحسي نحو إدراك قوة الطبيعة وتشكلاتها في الحفاظ على ديمومة نمو الذكاء الكوني، وإلهامنا لتحقيق التكامل الإنساني.

فهل يمكن لتأمل سلسلة «زنابق الماء» المقدرة بنحو 250 لوحة زيتية، قادمة من تصورات جمالية لحديقة الزهور الخاصة بمنزل مونيه بمنطقة «جيفيرني» قرب العاصمة الفرنسية في «باريس»، أن تعيدنا للتفكير في التناغم اللوني لـ«زهرة زنبق الماء»، تلك التي زرعها مونيه بنفسه، مازجاً الأصناف المحلية، بأصناف مستوردة من أميركا الجنوبية ومصر، والمعروفة عند القدماء المصريين بقدسية خاصة ويطلقون عليها «اللوتس»، مشكلة سمة بارزة في عمارة المعابد، طارحاً مفاهيم حضارية، في التداخل الثقافي والتاريخي، بين ألوان مونيه، والدلالات الدينية للحضارة الفرعونية، فعندما حضرت ألوان الزنابق بين البيضاء والصفراء والزرقاء، أنتجت مع الوقت اللون الوردي، رسمها مونيه جميعها وفق تأثيرات الضوء على سطح البركة في حديقته، في أزمنة مختلفة بين فترة الصباح ومتغيراتها مع غروب الشمس، مكرساً حضوراً لافتاً لانعكاسات السماء والنباتات، كجزء حيوي في تكوين اللوحة، تقودها أبعاد الظلال المتحركة، ما جعله توثيقاً فنياً لشعار الجناح الفرنسي «الضوء والأنوار»، الهادف إلى تجسيد عصر التنوير.  كل ما أراده الرسام كلود مونيه، هو أن نتحمل كمشاهدين لأعماله، مسؤولية المزج الخاصة فينا لتلك الألوان الكامنة في عمق تجربة رسم «زنابق الماء»، من خلال أن يقدم لنا جّل الوقت لإعادة اكتشافها بروية تامة، بقوله: «لقد استغرقت بعض الوقت لفهم زنابق الماء الخاصة بي، لقد زرعتها من أجل المتعة فقط، لقد قمت بتربيتها دون التفكير في رسمها. تلقيت الوحي مرة واحدة، ووصلت إلى لوح الألوان الخاص بي، لم يكن لدي أي موضوع آخر منذ تلك اللحظة»، ومنه ندرك سبب حرص الرسام والفنان الأميركي أليكس كاتس، أثناء حديثه عن «زنابق الماء» لـ مونيه، ببيان أنها قريبة من تكوين أوركسترا مقدس كتبه يوهان سيباستيان باخ في عام 1727، بعنوان «شغف القديس ماثيو» موحياً بأن الإيقاع في اللوحات بطيء، فأنت ترى كيف الأشياء تبدأ بالظهور، ومن ثم تنتشر في أرجاء عوالم اللوحة، من بين اللوحات الساحرة لـ مونيه التي تعكس هذا التصور، زنابق الماء الزرقاء، تلك التي تتفتح فجراً وتغلق نفسها في المساء، وفي الثقافة المصرية القديمة توصف «الزنابق الزرقاء» بأنها بداية الخليقة، كونها شبيه بفعل الشمس، رسمها مونيه دونما مزج لوني، كما هي حالة أغلب لوحاته في السلسلة، تراها ضربات للفرشاة أحياناً قصيرة، وبعضها ضربات أطول ببعدها العمودي في اللوحة. 

وصف القيم الفني جيمس باين، كيف أن مونيه يضع المشاهد في العلاقة المكانية داخل التكوين عن طريق الخروج من الأفق، فمشهد الماء أخذ اللوحة بأكملها، من الحافة إلى الحافة، تاركاً مجالاً واسعاً للاحتمالات، كأننا بالنظر إلى لوحات مونيه نطفو فوق الماء وتنظر إليها وجهاً لوجه، وهنا تستمد موضوعات الاستدامة في أعماله من خلال استمرارية التبادل الإبداعي في مهمة الطبيعة اللا نهائية من تجسيدها نفسها عبر مخيلة الفنان واكتشاف المتلقي، وتحديداً دراسة الماء وكيف يعكس الضوء والعالم من فوقه. 
في متحف Musée de l›Orangerie، تم بناء غرفتي عرض بيضاويتين مصممتين خصيصاً لـ «زنابق الماء»، مما يخلق بانوراما كاملة للمناظر، تقدم تجوالاً كاملاً في داخل اللوحة، يبحث عبرها المشاهد عن مكان للاستقرار والتجذر، يعتبرها القيمون الفنيون بمثابة استجابة مباشرة لمونيه لأكثر الفترات وحشية في التاريخ الحديث، مشكلةً نصباً تذكارياً لمن فُقدوا بشكل مأساوي في الحرب العالمية الأولى، وأيضاً حالة الفقدان التي عاشها كلود مونيه بنفسه، بوفاة زوجته وابنه، وجميعها تقاطعات إنسانية وتاريخية تتجلى في رحلة البحث المعرفية، التي تتطلب بشكل رئيسي انفتاحاً وإحساساً رفيعاً إبان السفر في وجدان اللوحة، فسرها الفنان والمسرحي روبرت ويلسون، بالعلاقة بين الزمن والفضاء، وكيف أنهما أساس المعمار لكل شي، وذلك أثناء حديثه عن مجموعة «زنابق الماء»، مبيناً أن الضوء هو العنصر الجوهري في العمل، وهو ما يجعل الظلام مظلماً، والذي يجعلنا نقدر الضوء أكثر، موضحاً أن الشعور الكامن في اللوحة مثلما هي الحالة الموسيقية، وجمالية «زنابق الماء» في أنها تعطينا الوقت والتأمل للاستماع إلى موسيقانا الداخلية في عالم متسارع، وأن تغير الألوان كذلك من الشروق إلى الغروب في الأعمال، تهدينا الوقت لملاحظة الانعكاس، والذي هو بحد ذاته يعطي إحساساً بالحرية للمشاهد، دونما توجيه، ما يجعله منفتحاً نحو الكثير من الأفكار من خلال التجربة. 

معايير «الاستدامة»
في الجناح الفرنسي، ستتاح لزائر فُرصة لإثراء معايير «الاستدامة»، أمام نقطة انطلاق لفن شبه تجريدي، من خلال بركة الزنبق المائي، إلى جانب سلسلة لوحات في محطة St-Lazare، تلك التي كان ينظر فيها مونيه إلى الطريقة التي كان يؤثر فيها الدخان والبخار على اللون والرؤية، وجميعها تلتقي بمضامين دراسة المحيط البيئي والطبيعي وتأثيرات الطقس في تشكيل الضوء، ومن بين تلك المعايير اللافتة التي تثريها «زنابق الماء»، أن الاستدامة قائمة على فكرة لا نهائية، مثلما هي الدائرة بلا بداية أو نهاية، وأن التركيز على جانب تفصيلي في المكون العام، يسهم في بيان قوة الاستدامة، كذلك فعل كلود مونيه عندما صب تركيزه على البركة، وجعل السماء في انعكاسات الماء، وليس حاضرة في اللوحة، إضافة إلى محاولات مونيه التخلص من الطلاء لإنشاء سطح غير مستوٍ يرسمه مرة أخرى ليحصل على تأثير النحت، تلك النتوءات بحد ذاته، صنعت نغمة داخلية لإيقاع اللوحة، وكأن ما يمكن وصفه بالاهتزاز يحدث في الحركة الداخلية للوحة، من شأنه أن يثري طاقة الخلق، التي تستمد الاستدامة منها استمراريتها، أما الحضور العمودي في اللوحة، وتغيب للأفق العرضي، إنما توضيح لقوة الجذر المنطلق للأعلى أو المتجه للأسفل، هو اتصال عمودي قد تراه في الاستدامة عبر فعل أشعة الشمس الساقطة على الأرض، وجذور الشجر الغارقة تماماً في محيط الأرض، وجذوعها وأغصانها الممتدة للأعلى ما يعكس تحولات طاقة الحياة من الأعلى للأسفل والعكس. 

لوحات انطباعية
عندما نتحدث عن الموسيقى في أعمال كلود مونيه، فإننا نتذكر والدته من كانت مغنية، ولا يمكن إنكار تأثير ذلك في مخيلة مونيه، بينما دراسة الـ 30 عاماً الأخيرة من حياته، التي كرسها لدراسة «زنابق الماء» وتحديداً بناؤه جسراً على الطراز الياباني، التي توضح من جهة أخرى، أهمية علاقة الصداقة التي جمعة مونيه بـ جورج بنجامين كليمنصو، من كان رجل دولة فرنسياً وصحافياً، ساهم في عودة مونيه للرسم.
واجهت «زنابق الماء» نقداً كبيراً في حياة مونيه، معتبرين أنها لوحات انطباعية ذات فوضى، ليست ذات رؤية إبداعية، إلا أنه بظهور التعبيرية التجريدية، وتحديداً في الخمسينيات، وتأثر الفنانين في الولايات المتحدة الأميركية بأعمال مونيه، أسهم بإعادة القيمين الفنيين اكتشاف مونيه، في عام 1955 اقتنى متحف الفن الحديث، من سلسلة «زنابق الماء» وأصبحت المقتنيات الأشهر في المتحف، يذكر أن كلود مونيه كان يعمل ما بين 8 إلى 12 في آن واحد، ويتحرك مع تغير الضوء والطقس على مدار اليوم، وكان ينظر أن ميزته وتفرده في قدرته على الرسم مباشرة من الطبيعة في الهواء الطلق.

 

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©