يعتقد بعض الوعاظ الدينيين أن الدولة (أي دولة) لا تكتسب الشرعية إلا من خلال العمل تحت مظلتهم. ويذهبون في هذا الأمر بعيداً بأن يطالبون بأن يكون تفسيرهم وتأويلهم للنصوص المقدسة وآراؤهم الدينية التي نحتوها أو ورثوها من أسلافهم، هي المصدر الوحيد الذي يجب أن تُشتق منه القوانين والأنظمة كافة التي تُسيّر عمل الدولة.
يؤمن هؤلاء أن الدين هو الدولة والدولة هي الدين، ويشتغلون على إيهام الجماهير بأن كل من يتحدث باسم الدين هو في حقيقة الأمر عضو تنفيذي في مجلس الدولة الأعلى، وعلى كل فرد من أفراد المجتمع أن يُعيد تشكيل نفسه ليكون تابعاً وهتيفاً ومؤيداً له.
الدين في حقيقة الأمر هو رسالة ربانية لتنظيم الحياة على الأرض. رسالة ربانية ينبعث نورها من الإنسان نفسه لتضيء ما حوله، وتساعده على إدارة نوايا وحركات جسده والحيز المكاني الخاص الذي يمتلكه في محيط جسده فقط. أما الدولة فهي النظام الذي يحتوي الدين والجسد وحركاته ونواياه والحيز المكاني الذي يحيط به. الدولة هي النظام المدني الذي يدير العلاقة بين الدين والمكان والإنسان، من خلال نظام تعاقدي محكوم بشروط مرنة تتغير بتغير الأزمان. الدولة هي الفضاء الأخلاقي الذي يحتوي رجل الدين ورجل الفضاء وعالم الكيمياء ولاعب كرة القدم والممثل والكاتب والنجار والطبيب، وينظم أفكار كل هؤلاء وأفعالهم بما يحفظ حقوقهم جميعاً تحت عنوان واحد.
بنية الدولة النظرية تشكلت نتيجة لرابطة «العقد الاجتماعي» التي جاء بها فلاسفة التنوير الأوربيون، والتي تقول إن على المجموع العام أن يتنازل عن بعض حقوقه ويخضع بشكل رأسي لسلطة أعلى منه، بهدف الحفاظ على سلامة العلاقات الأفقية والحقوق الناشئة عنها. وأجهزة الدولة الفاعلة على الأرض (البنية العملية) جاءت لاحقة للمفهوم النظري بهدف حماية وتعزيز «العقد الاجتماعي» وتطويره كلما لزم الأمر.
الدين في المقابل، هو كلمة الرب العليا التي نزلت إلى الأرض لثلاثة أسباب رئيسية:
الأول، هو توجيه الناس إلى طريقة العبادة الصحيحة لله سبحانه وتعالى وكيفية الاستسلام له بالتوحيد والانقياد له بالطاعة. والعبادة فعل روحي بين الإنسان وربه ومتى ما خرجت عن هذا الإطار، فإنها تتمرد على براءتها وطهرها وتدخل في بشرية «العقد الاجتماعي» ما يفقدها قدسيتها.
والثاني ليكون ظهيراً إلهياً للقانون والنظام البشريين اللذين يحفظان السلم والأمن على الأرض، فالجرائم التي لا ترتكب بسبب خوف الإنسان من ربه أكثر بكثير من الجرائم التي لا ترتكب بسبب خوف الإنسان من القانون والنظام.
وأما ثالثاً، فجاء الدين  ليساعد الإنسان  على مواجهة الأسئلة الكونية العميقة التي قد تهوي بالإنسان في مهاوي الجنون والضياع الروحي، فهو بمثابة الجدار الغيبي الذي يرمي الإنسان عليه ضعفه وارتباكه وقلة حيلته.
العارفون من الوعاظ يعرفون أنه لا يصح الخلط بين الدين والدولة، ولا يمكن لأي واحد منهما أن يكون مكان الآخر، فالدولة (أي دولة) هي مكون مدني (حكومة وسكان وإقليم واعتراف دولي) ينظم العلاقات ما بين موجوداته (والدين أحدها) بروح علمانية. وأما بعض الوعاظ غير العارفين (جماعات الدين السياسي) فيقولون (جهلاً أو عمداً) أنهم هم أصحاب الحق الأعلى في إدارة الدولة.


كاتب سعودي