- صباحات مدن كثيرة كانت عاطرة معطرة، وأعطتني ذلك الشرف والمتعة أن أشاركها صباحها الحلو، بكل طقوسه المختلفة، ما أجمل الفطور في المدن المختلفة، من يتذوق المدن ويطيب له رائحتها والسفر إليها وفيها، يطيب له شهية صباحها، وذلك المرتّب بمهل على غطاء الطاولات الأبيض، وثمة وردة واحدة حانية رأسها لك، تنشرح النفس، وتنثال أيام حلوة، ويحلّ عليك صفاء، كأن المطر باغتك فجأة، وسكينة يبعثها ذلك الهواء البارد، وثقة الناس في خطواتهم، وهم يبكرون نحو رزق حلال، وعمل يشبه العبادة.
- صباح مدن مثل جنيف، وقرى ثلجية على طريق الريف أو طريق نابليون القديم الذي شقه بخيوله من باريس إلى مقاطعات سويسرا، ومدن فرنسا المتناثرة على البساط الأخضر، والأنهار التي تعطي للقرى الكثير من الطمأنينة، والثبات التاريخي، وتجعل أهلها متعلقين بالأرض، لا يبرحونها ما استطاعوا، ثمة عطر يشبه الصبح ينبعث من تلك القهوة التي تفوح بأريج رائحتها الدافئة من بعيد معطية لغبش النهار المتكاسل نشاطاً آخر.
- صباح فيينا.. بعض المدن لها صباحات باكرة وضاحكة، إما أن تكون قد اغتسلت فجراً بالمطر أو باغتها مع شقوق الضوء الخجول، مخطئ من يظن أن لا رائحة لصباح فيينا المختلط بدفء القهوة، ورجفة البدن التي تتسلل من تحت الأردية الثقال، وتلك الغمامة كسحابة باردة تطوف سماء المدينة، تصبّح على البيوت والوجوه، صباح فيينا، صباح غير متثائب، والذي يشبه صفحة خد صبية في غاية اكتمالها، وتمام عافيتها.
- صباح.. وفطور يحاذي نافذة مطلة على الشارع في مدن عديدة وقديمة، وبعضها مثل قرية صغيرة، تقدر أن تعد خطوات المارين بعجل أو مهل، مثل فتاة تريد حرق الطريق معتقدة أن يقظة الصباح لها وحدها، أو عجوزين في خريف العمر يقطعان الطريق بثرثرة لا تنقطع عن أيام خوال يتذكران بعضها ويكررانه ثم يتخاصمان فجأة، ويمضيان في مشيهما، متقاودين بأيد مرتجفة.
صباح.. وفطور في بيت خشبي مغطى سقفه بالثلج، ومحاطة جوانبه بالثلج، كما كان في «اللقوق» مثلاً، ترى فيه المدفأة التي يطقطق حطبها، فتنسى منظر البياض البارد والطاغي على المكان، لا تتخيل إلا طُهر البياض، ولا يبقى في العينين إلا ظل رجال يتوشحون به، ميزتهم الخير والصدق وذلك الشرف النبيل، صباح.. وفطور غير عادي في ذاك المكان، ستقبض عليه الذاكرة طويلاً، وسيزورك حين تفتقد الراحة في أيام عجلى، وساعات تلتهم يومك بأرقامها ومراجعاتها ونسبها المئوية، وأشياء مجبر عليها تقتحم حياتك عنوة.
- صباح.. وفطور على شرفات مطلة مرة على البسفور، ومنظر السفن الغادية، فطور على شرفة في جزيرة ترى تلاطم أمواج المحيط أمامك، كنمر واثب، فطور صيفي يشاركك البحر فيه، فطور مدن كبيرة ترهبك أن تكون وحيداً فيها، يُشعرك بعضها باليتم، لأنه لم يعد لك أحد فيها، بعضها الآخر تخاف أن تتغير ولا تعرف شيئاً فيها، صباحات مدن جميلة، وفطور يشعرك بالعافية، ويمدك بفرح لا ينتهي مع اليوم.. ويدوم كثيراً.. وليته كان كالدهر.