كان حلم الشعوب العربية بعد نيلها الاستقلال، أن تتحرر من القوى الأجنبية، وكان هدف هذه القوى أن يبقى العالم العربي منضبطاً ومنفتحاً أمام مصالحها، فهو قلب العالم، وهو عقدة المواصلات الدولية، وهو الأغنى بالثروات، وهو صاحب التاريخ الحيوي المفعم بالطموحات. والآن حدثت المفارقة العجيبة حين وقفت كثير من الدول حائرةً بعد أن أعلنت الولايات المتحدة عزمَها الانسحابَ من الشرق الأوسط والتوجه إلى المحيطين الهادئ والهندي. ولم تكن خطة بايدن بالانسحاب من أفغانستان مفاجئةً للبنتاغون، فالتفكير بالانسحاب بدأ من عهد أوباما الذي أعلن انسحاباً من العراق، ولم يكن ترامب بعيداً عن متابعة الفكرة، إذ تحدث طويلاً عن التكاليف الباهظة لتقديم الحماية. أما بايدن فتابع المفاوضات مع حركة «طالبان» بجدية، وترك لها فيضاً من الأسلحة المهمة. وغرق المحللون في فهم الاضطراب الذي حدث، ورحبت الصين بـ«طالبان»، وأبدت إيران استعدادها لعلاقات متينة، وتوجست أوروبا.
 غير أن استراتيجية الانسحاب الأميركي من الشرق الأوسط طرحت تساؤلات حول مَن سيملأ الفراغ، وأثار بعض الباحثين أسئلة صادمةً، فمثلاً تساءل توماس فريدمان حول «احتمال أن يكون الانسحاب لصالح إيران» التي تعلن رغبتَها في التمدد الإقليمي، لا سيما أنها ورثت العراق من الولايات المتحدة بالرضا، وسيطرت على لبنان أمام أعينها، وباتت قواها العسكرية متمركزةً على حدود إسرائيل في لبنان، وفي سوريا أيضاً، ثم التفت حول الجزيرة العربية من اليمن. وتساءل فريدمان حول «احتمال أن يكون الانسحاب لصالح المواجهة مع الصين وروسيا». لكن بعض الباحثين أبدوا قلقهم أيضاً من أن يكون الانسحاب جزءاً من صفقة الاتفاق النووي المستجد مع إيران.

لذا تساءل بعض المتشائمين: أين ستذهب الدفاعات الجوية التي ستسحبها أميركا؟ 
المتفائلون يرون أن الانسحاب لن يتم، فإسرائيل قادرة على جر الولايات المتحدة إلى المنطقة، رغم أن ما حدث في مايو الأخير في غزة أثبت رغبة الولايات المتحدة في الاعتماد على القوى الإقليمية، ومن ثم فقد تعززت لدى الأميركيين رغبتهم في فك الارتباط العسكري بالشرق الأوسط، حيث برزت لديهم خطة الانسحاب من «الحروب التي لا تنتهي»، مع شعورهم بتضخم القوة الأميركية القادرة على التدخل الفوري كقوة لا تضاهى.
وربما يعتقد الأميركيون بأن قوة النفوذ السياسي ستمكّنهم من ملء الفراغ عبر ضبط الديناميات عن بُعد، وتنمية الاعتماد على الذات في المنطقة عبر العمل السياسي من خلال الاتفاق النووي مع إيران، وسياسة التهدئة في كل من ليبيا واليمن وسوريا، وفي حل الخلافات الإقليمية وتقوية الشراكات مع جوار الإقليم مثل قبرص واليونان، وإيلاء الاقتصاد أولوية في العلاقات البينية.
لقد شعرنا، نحن السوريين، بانسحاب الولايات المتحدة منذ عهد أوباما، ولاحظنا حالة التخلي وتسليم الملف لروسيا، وكذلك كان الحال في عهد ترامب الذي قدّم مشهداً هوليودياً في قاعدة الشعيرات، لكن المفاوضات السياسية توقفت في عهده، وتفردت روسيا بمتابعتها في آستانة وسوتشي. وفي عهد بايدن لم تظهر أية رؤية أميركية عملياتية لتنفيذ قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254، رغم أن الولايات المتحدة ما تزال تتمسك به. وليس بعيداً أن تسحب أميركا قواتها الرمزية من سوريا.

* وزير الثقافة السوري السابق