الهويات القاتلة، عنوان اجترحه بعبقرية أمين معلوف ووضعه عنواناً لكتاب حول موضوع الهويات وأبدع فيه. تلك الهويات التي نحملها لنندمج في جماعة، فننتهي بها وهي تحملنا كعصبيات مشدودة على وتر الاستفزاز.
شخصيا، أفكر منذ فترة بخوض تجربة الفحص الوراثي لمعرفة كم الهويات المختلط الذي ورثته على صيغة جينات هي أساس تكويني وكياني، وتصبح الفكرة مغريةً أكثر وأنا أتأمل ابنتي «بترا»، وهي حاصل «جمع وطرح وضرب وقسمة»؛ أي أب مقسوم نصفين بين أصول حورانية (شمال الأردن) وأصول قوقازية (شمال الكوكب)، وأم أيضاً منقسمة بين أب من أصول «حلبية تركية» وأم مجرية من جوار الدانوب الأزرق.
ربما فكرة الفحص الوراثي هي أكثر هدية تحمل قيمة حقيقية أتركها لابنتي لتعرف أن هويتها الإنسانية هي الثابت الوحيد في كل موجات الهويات العابرة للجينات أو الهويات التي نلجأ إليها لننتمي حيث نحب لا حيث نضطر مرغمين.
الهويات هي وسائلنا الذكية لننتمي، وحين تتحول تلك الهويات إلى عصبيات، فنحن نحولها إلى سلاح قتل وإقصاء مبني على عبث مطلق لا معنى له.
لم يخطر ببال موظف الجمارك النمساوي في الدولة البروسية (المجر والنمسا) أن ابنه «أدولف» سيكون عصبوياً للعرق الآري ويقود ألمانيا على أساس النقاء العرقي للألمان!
ولا ينتبه أحد مثلا إلى أن نابليون بونابرت الذي غزا العالم ليقيم إمبراطوريته الفرنسية كان من أصول إيطالية، وهذا لم يمنعه من احتلال إيطاليا ومحاربتها وسفك الدم فيها ليقيم أمجاده الشخصية.
المسيحي الماروني الشيخ بيار الجميل الذي أسس حزب الكتائب واستوحاه من شبيبة هتلر النازية، كان متوافقاً في تلك الفكرة مع صديقه الفلسطيني الحاج «أمين الحسيني» الشيخ الإسلامي والمفتي زعيم الثورة الفلسطينية الأولى، حتى أن الشيخ الحسيني أقام ضيفاً لمدة عامين عند الماروني بيار، وأحب الماروني ذلك الشيخ الفلسطيني حتى أنه سمى ابنه البكر على اسمه، فكان رئيس الجمهورية اللبنانية الأسبق أمين الجميل.
فتخيل حجم سخافاتنا كلها يا رعاك الله! تلك «حيلة الهويات والانتماءات» كانت مجدية في عوالم الأزمان السابقة، لكن عالمنا اليوم لا مكان فيه للحيلة كي تعيش أمام الحقائق العلمية، ونحن هنا لا نتحدث عن المادة الوراثية التي ستكشف مفاجآت في الأصول والأعراق والأنساب، لكن هو عالم الثورة المعلوماتية والتكنولوجيا التي لا تزال تمحو الحدود وتعيد تشكيل مفاهيم العلاقات الإنسانية والدولية لتصبح متصالحةً مع واقع ما نعيشه من تفاصيل يومية.
ابنتي «بترا»، هي حاصل جمع ما أعرف وما لا أعرف من هويات حية وغابرة، وهي الآن في صفها الدراسي تحاور صديقتها البلجيكية الأرمنية، وكالعادة ستشكو لي من الصبي البلجيكي الفظ، والذي لا تعرف أن أباه مهاجر من شمال أفريقيا وأمه هولندية.
سأنهي كل ذلك، وأنتهي بصفحات التواصل الاجتماعي العربية وهي تخوض حروب داحس والغبراء، إما لبيان المتهم الحقيقي في جريمة مقتل الخليفة عثمان، أو للتخندق بين معسكرين (قلب مع علي أو سيف مع معاوية) في جدلية عبثية لا تنتهي حتى اليوم. وهلم جرا.. ومجروراً للمرور بكل مفاصل تاريخنا المقسوم بين هويات قاتلة.
لقد حاصرنا أنفسنا داخل دائرة طباشير مرسومة حولنا منذ ألف عام.. فهل من ممحاة؟ 


كاتب أردني مقيم في بلجيكا