نعم.. أقرّ كأحد المواطنين القدامى، ومن جيل الطيبين، أنه في العالم الافتراضي، واللقاءات عن بُعد غابت تلك العبارة الجميلة المتوارثة: «مرحبا الساع»، وبقينا نبدأ صباحاتنا بتلك الأحرف الإنجليزية المختصرة، والتي لا تعني إلا قلة الحيلة، لكن لعل من محاسن أو أضداد وسائل الاتصال الذكي وأجهزة التواصل الاجتماعي أنها خلقت لنا عالماً افتراضياً، سكتنا جميعاً عن حدوده، وارتضينا بضريبته، وتركناه يؤطر لنا نوع العلاقات، ودرجات القرب، أصدقاء منهم الدائمون أو اليوميون، بحيث تكون «صباح الخير» تبدأ بهم، وأصدقاء المناسبات، حيث يذكّرك ذلك الجهاز بعيد ميلاده، وعمر صداقتكم، والمناسبات الجديدة التي جدّت في حياته، وهناك أصدقاء اللحظة والقضية، بحيث يناصرونك ظالماً أو مظلوماً، ثم يختفون بعد أن يحتفوا بالنصر، وهناك أصدقاء متفرجون، لا يشاركون لا من بعيد ولا من قريب، مهمتهم الفرجة والمرور عليك في ذلك العالم الهلامي الافتراضي، دون أن تسمع هسيس صوتهم الخفي، وهناك أصدقاء عابرون، ما أن يفتح صفحة الصداقة حتى ينسى الواحد منهم ويتناسى، لا هدف عنده إلا أن أصدقاءه زادوا الْيَوْمَ واحداً.
في العالم الافتراضي ليس هناك من صديق ترى غبرة الطريق والمسعى إليك بادياً على محياه، ليس من صديق تركض معه تسابقان ظلكما، وحين يعيا أحدكما تجلسان تحت ظلة جدار تتابعان أنفاسكما المتصاعدة، ليس من صديق تعتزيه، فيعتزي في الحال والتو، مقدماً الحال على المال، لا ذكريات بين أصدقاء الحسابات الإلكترونية المتعددة، ولا رائحة للأمكنة التي يتشاركون فيها الحب والولع، ويزورنها افتراضياً، حتى تهاني الأعياد تأتي بوجه جامد صارم، بحيث يمر العيد دون العَود، ولا ثمة حرارة لليد المصافحة عن بُعد، حتى المراهقون من الجنسين اكتفوا بمط «البوز»، وبسلال الورود على الرؤوس، دون رومانسية الانتظار، ودفء الرؤية، وذلك الخفقان الذي يحدث للمرة الأولى، وتلك الأغاني التي كانت تحطم الضلوع في سنين المراهقة المتعبة.
لقد تمادى هذا العالم الافتراضي، ودخل في خصوصية البيت، وأصبح جزءاً من تلك العلاقة المقدسة بين الزوج وزوجه، وأصبح فضاؤهما، صورة لـ«كوب قهوة بلاستيكي» قابع على الطاولة مع جريدة مرمية، لم يطالع الزوج حتى عناوينها الرئيسة، صورة لِيَد الزوجة، تحرص فيها على إبداء طلاء الأظافر الجديد بلون النعناع البارد، بجانب حقيبتها الجلدية ذات الحرف «H»، والتي ترمي من خلال إظهارها للصديقات قبل الزواج إلى نبرة التعالي الاجتماعي، مع فنجان قهوة أنيق، وقطعة حلوى، يظل الزوجان في الكذب على بعضهما بهذه الصور التي لا تشكل ذكرى بينهما، ولكنها تفرحهما بيومهما في هذا العالم الافتراضي الكاذب.
جميعنا الْيَوْمَ نسبح في هذا الفضاء الافتراضي، تاركين أشياءنا الجميلة وحيدة على الأرض! ومنها العبارة الترحيبية الغالية: «مرحبا الساع»!