لا حديث اليوم إلا عن نتائج صناديق اقتراع يوم 8 سبتمبر 2021 في المغرب، والتي أفرزت خريطة سياسية جديدةً أعطت الصدارة لأحزاب «التجمع الوطني للأحرار» و«الأصالة والمعاصرة» و«الاستقلال»، فيما تراجع «حزب العدالة والتنمية» (ذو المرجعية الإسلامية). وهو تراجع تاريخي، حيث هوى الحزب من 125 مقعداً برلمانياً إلى 13 مقعداً. وأضحى «حزب التجمع الوطني للأحرار» القوة السياسية الأولى في البلد، وهو يطمح اليوم لإحداث تغيير كبير خلال السنوات الخمس المقبلة في ظل التطلعات المتزايدة للمغاربة. وبعيداً عن التحليلات السطحية، أريد في هذه المقالة والمقالات التي ستتبعها أن أعطي تحليلاً علمياً رصيناً للواقع السياسي المغربي في ظل الانتخابات الأخيرة:
-كان البعض، وعلى رأسهم بعض قادة «حزب العدالة والتنمية»، يتوهمون أن لهم حصانة من أي عقاب انتخابي، وأن لهم أتباعاً ومريدين وأجنحة دعوية ستبقى وفيةً لهم، وأن الناخبين المغاربة أعطوهم شيكاً على بياض يمكّنهم من البقاء في السلطة. وهذا وهم كبير وخلل فكري تشبث به من لا يجيد أبجديات علم السياسة. فالحزب مثله مثل باقي الأحزاب، ويحكم على الحزب من خلال تصرفاته ونتائجه، وفي بلد تعطى فيه الكلمة أيام الانتخاب لقرار المواطن المغربي الناخب، سحبت الثقة من الحزب وعوقب أهلُه عقاباً كبيراً. المغاربة أتوا بهذا الحزب في عامي 2011 و2016 وقاموا بإخراجه من المجال الحكومي ومن المجال التشريعي ومن مجال تدبير الشأن العام والمحلي في عام 2021 بلا ضجيح وبلا توقيف للمؤسسات، بل بصيغة حضارية وعن طريق الديمقراطية.
- هذا العقاب كان عن طريق صناديق الاقتراع لا غيرها، وبعيداً عن أي تثوير أو تهييج، «فالقوة لا تصنع الحق» وهذه مقولة تاريخية جاء بها جان جاك روسو منذ ما يزيد على قرنين ونصف، ومعناها أن عوارض البطش بالقوة كاسرة لصورة الشرعية التي بها التغلب، وإذا انقرضت الشرعية أو ذبلت قصر القبيل عن المدافعة والحماية، فضلاً عن المطالبة. كانت الكلمة للمواطنين المغاربة في إطار الدستور والقوانين التي تحكمهم وتؤطر الانتخابات، وهذه الانتخابات أجريت و«حزب العدالة والتنمية» على رأس الحكومة، بمعنى أنه كان جزءاً في تنظيم الانتخابات التي خسرها خسراناً مبيناً. ونُظمت الانتخابات في وقتها رغم تداعيات جائحة كورونا، وبمشاركة تتعدى النسبة التي نشهدها اليوم في الانتخابات الأوروبية، وفي ظروف وصفها مراقبون محليون ودوليون بالشفافة والنزيهة. وهنا يشيد الخاص والعام بالتدبير الحكيم والذكي للحياة السياسية المغربية، من المؤسسة الملكية التي سهرت على مرور الانتخابات في أحسن الظروف وفي احترام تام للدستور وقوانين البلد، وكان تحرك القضاء الإداري في وقته، وعملت وزارة الداخلية في احترام تام للقواعد السامية للبلد. 
-التجربة المغربية تعطي درساً كبيراً مفاده أن المجال السياسي العام لا يمكن بناؤه إلا انطلاقاً من جدران الثقة بين الدولة وشعبها. وفي كتب العلوم السياسية يجد أولو النهى الوصفات الطبية لبناء الدولة الحديثة، ويجدون أن كل المنغصات اللاحضارية والنرجسية القومية يمكنها أن تنصهر في إطار الدولة الموحدة حيث يتقاسم كل المواطنين نفس الحقوق ونفس الواجبات.. سيجدون فيها أن مفهوم الملكية الجماعية للسلطة هو ما يبني التوافق والاستقرار. لقد ترك ميكيافيلي في أوراقه التي كتبها في حياته أن «هناك مرتبتان للقوة: قوة تتغذى من ضعف الشعب وأخرى تتغذى من قوته».... لذا لا بديل عن مفهوم السياسة كشأن عام، ومفهوم السلطة كملكية جماعية، وقوة الدولة والسلطة يجب أن تتغذى من المفهوم الحقيقي للسياسة ومن قوة صوت المواطن وقراره.
-يتوفر النظام السياسي المغربي، دون أي شك، على مميزات خاصة أكثر من جيرانه بالنظر إلى سياسات التحرر السياسي التي عرفتها البلاد منذ عقود، والنجاح في تحقيق ميثاق تعاقدي سياسي بين النخبة السياسية في الحكم والنخبة السياسية في المعارضة. ويمكن إرجاع ذلك في المقام الأول إلى كون الملكية في المغرب لم تمنع قط التعددية السياسية منذ الاستقلال، وجاء دستور عام 2011 ليؤصل لمجال سياسي عام تُعطَى فيه الكلمة لصوت الناخب ولتتغذى الدولة من قوة الشعب لا غير.

أكاديمي مغربي