بنتائج الانتخابات المغربية الأخيرة تكتمل الحلقة حول ظاهرة ما يُسَمى الإسلام السياسي، وهي تسمية أُفَضل عنها «التأسلم السياسي»، لأنها تحمل معنى الانحراف في توظيف الإسلام بغير حقيقته. وباكتمال الحلقة يتم وضع هذه الظاهرة التي ابتُليت بها المنطقة منذ نهاية عشرينيات القرن الماضي في حجمها الصحيح، والتي ولَّدت حركات ظاهرها إحياء الدين وباطنها أهداف سياسية شمولية تلجأ إلى العنف من أجل تحقيقها عندما تفشل الوسائل الشرعية، الأمر الذي أوجد نموذجاً للصدام بينها وبين السلطة السياسية والمجتمع في البلدان التي ظهرت فيها ابتداءً من مصر التي كانت مهداً لها ثم كافة البلدان التي اكتوت بنارها. واللافت أن هذا التيار لم يتمكن من قمة السلطة إلا في عام 1989 حين أطاحت «الجبهة القومية الإسلامية» في السودان بنظام الحكم المدني مستخدمةً الجيش، وظلت في الحكم ثلاثين عاماً حتى أُطيح بها في عام 2019 على يد انتفاضة شعبية انتهت بتدخل الجيش بعد أن فعلت بالسودان ما فعلته وأخطره التفريط في وحدته بسبب الإدارة الخاطئة للصراع مع الجنوب.
ثم وفرت الانتفاضات الشعبية في مطلع العقد الثاني من هذا القرن فرصة ذهبية لوصول تيار التأسلم السياسي إلى السلطة، بما أوجدته من خلخلة سياسية واجتماعية في البلدان التي تعرضت لهذه الانتفاضات، إما منفرداً أو كقوة أولى ضمن القوى الفاعلة في تركيبة السلطة الجديدة في تلك البلدان، فسيطرت رموزه على السلطتين التشريعية والتنفيذية في مصر عام 2012، وأصبح «حزب النهضة» (وهو الترجمة التونسية لجماعة «الإخوان المسلمين») القوة الأولى في بنية السلطة التي أفرزتها الانتخابات التشريعية بعد الثورة. ولعب هذا التيار دوراً تخريبياً في كلٍ من ليبيا وسوريا، وبدا أن المنطقة في طريقها لحقبة كئيبة يُمسك فيها بزمام القيادة في عدد من الدول بدعم خارجي. لكن اللافت هو أن أعلى نقطة في منحنى صعوده كانت هي لحظة وصوله للسلطة، فقد أكد توليه المسؤولية طبيعتَه الشموليةَ العنيفةَ، وكشف عجزه عن تسيير الدول على نحو فادح، وجاءت لحظة الحقيقة الأولى من مصر التي انفرد فيها بالحكم متنكراً لكل وعود المشاركة، ناهيك بفشله الذريع في إدارة الحكم ولجوئه للعنف في مواجهة معارضيه. وهكذا لم يتحمل الشعب المصري وطأة حكم «الإخوان» إلا لسنة واحدة، انفجر بعدها في ثورة غير مسبوقة أيّدها دون تردد الجيش الذي لم ينفصل يوماً عن طموحات شعب مصر وآماله، وتمت الإطاحة بحكمهم ومواجهة الإرهاب الذي فجروه بعد هزيمتهم. وفي تونس تكرر نفس النموذج، وإن على نحو مغاير، حيث أخذ نفوذ «النهضة» في التراجع، ولم تكن قد انفردت بالسيطرة أصلاً، فبينما حصلت في انتخابات عام 2011 على 89 مقعداً من أصل 217 في مجلس النواب، تراجع العدد في انتخابات عام 2014 إلى 69 ثم إلى 52 في انتخابات 2019، وأخذت الأوضاع في التدهور والتأزم حتى وصلت الأمور إلى الحد الذي دفع الرئيس التونسي لاتخاذ إجراءاته الأخيرة بتأييد شعبي واضح كمؤشر أكيد على فشل صيغة النظام القائم في أداء مهامه بما فاقم الأزمتين الاقتصادية والصحية ناهيك بالفساد على نحو غير مسبوق. صحيح أن «النهضة» ليست المسؤولة وحدها، لكنها المسؤولة الأولى بحكم أنها أقوى فصيل في البرلمان.
وقد جادل أنصار التأسلم السياسي طويلاً بأن سقوط أنظمتهم تم على نحو غير ديمقراطي، وهي حجة باطلة لأن السقوط جاء تالياً لثورة شعبية لا شك فيها في حالتي مصر والسودان، وبإجراءات اتخذها رئيس الجمهورية المنتخب بتأييد شعبي في تونس، أما في الحالة المغربية فقد كان سقوط «العدالة والتنمية» مدوياً وبآليات انتخابية صرف، ولذلك يمكننا الحديث باطمئنان عن «نموذج» لصعود وسقوط التأسلم السياسي في العالم العربي.


أستاذ العلوم السياسية -جامعة القاهرة