في بداية ستينيات القرن الماضي، أنقذت فرانسيس كيلسي، من الوكالة الأميركية للأغذية والأدوية، البلاد من أهوال عقار تاليدوميد. وكان العقار قد شاع حول العالم كعلاج لطائفة من الأمراض مثل التوعك صباحاً للنساء الحوامل. فرغم عدم توافر دراسات عن مدى سلامة العقار، روّج المنتجون للعقار باعتباره آمناً للغاية. ووافقت الجهات المسؤولة في دول كثيرة، بما في ذلك كندا وجانب كبير من أوروبا، على بيعه. وكان المطالبون بترخيص العقار في أميركا يتوقعون أن يحذو المسؤولون في الوكالة الأميركية للأغذية والأدوية حذو الجهات التنظيمية الأخرى. لكن الطلب اختصت به كيلسي، عالمة العقاقير الوافدة حديثاً على الوكالة، والتي وضعت معايير عالية استثنائية للموافقة على العقاقير. فقد طالبت كيلسي بفحص أدلة إكلينيكية دقيقة لسلامة تاليدوميد. 
وطوال الجزء الأكبر من عام 1961، منعت كيلسي مراراً بيع العقار في الولايات المتحدة، مطالِبةً كل مرة بالمزيد من البيانات. وانتاب الغضب مدراء شركة إنتاج العقار وأغرقوا كيلسي ورؤساءَها بوابل من الخطابات والمكالمات الهاتفية التي تشكو مما اعتبروه تصيد أخطاء بيروقراطياً. لكن كيلسي لم تتزحزح عن موقفها. ومُنع تاليدوميد من البيع في السوق الأميركية. وفي نهايات عام 1961، حين بدأ أطباء في أوروبا يربطون بين العقار وبين موجة من المواليد المشوهين، اكتسب موقف كيلسي دعماً وإشادةً. 
فماذا عساها أن تكون رؤية كيلسي اليوم للوكالة الأميركية للأغذية والأدوية التي أصبح وئامها مزعجاً مع الصناعة التي يفترض أنها تراقبها؟ وكيف كانت تصنّف أداء الوكالة تجاه بعض من أهم القضايا الصحية التي نواجهها مثل استجابتها المرتبكة تجاه الجائحة ودورها في تصاعد كلفة العقاقير، بل ودورها المحوري في تصاعد وباء انتشار المسكنات؟ 
أعلم أن هذه لحظة حرجة لانتقاد الوكالة، لأننا نعيش في عصر التفسير التآمري. ولفت الانتباه إلى إخفاقات الوكالة قد يعمق عدم الثقة فيها بينما هي بأمس الحاجة إلى لهذه الثقة. نعم، هناك كثيرون من المؤمنين بالمؤامرات الذين سيقبلون أفكاراً مجنونةً بصرف النظر عما تقوله أو تفعله الوكالة. لكن إذا افتقرت صناعة العقاقير والجهات المنظِّمة للثقة، فسبب هذا، من بين أسباب أخرى ربما، أنها لم تبذل ما يكفي لبث الثقة في الآونة الأخيرة. ويرى أندرو كولودني، الباحث في سياسة العقاقير المسكّنة في جامعة «برانديس» الذي درس إخفاقات الوكالة التي تسببت في إدمان المسكنات، أن «ما شهدناه منذ تسعينيات القرن الماضي هو أن الوكالة الأميركية للأغذية والأدوية وضعت مصالح الصناعات الدوائية دوماً قبل الصحة العامة».
وتواجه الوكالة فضيحة عقار أدكانيماب لعلاج الزهايمر الذي أقرته رغم رفض هيئة استشارية دعمَه لعدم كفاية الأدلة على فعاليته. والموافقة على أدكانيماب تمثل نموذجاً مثيراً للقلق. فمنذ ثمانينيات القرن الماضي، أصبحت الوكالة تقر عدداً أكبر من العقاقير الجديدة وبإيقاع أسرع في ظل دراسات أقل وأضعف لدعم سلامة وفعالية هذه العقاقير. وانتُقدت الوكالة أيضاً بسبب ضعف إشرافها على التجارب الإكلينكية التي تقرر مدى سلامة عقارٍ ما. 

وتوصلت دراسة في كلية الطب بجامعة «يال» إلى أنه اتضح بأن ثلث العقاقير التي تم إقرارها في الفترة بين عامي 2001 و2010 كانت بها مشكلات كبيرة في سلامتها بعد الموافقة عليها. وكانت الوكالة تُنتقد ذات يوم باستغراقها وقتاً طويلاً في إقرار العقاقير، لكنها أصبحت الآن أكثر سرعة في الموافقة على العقاقير من نظيراتها الأوروبيات. فلماذا يوافق المشرفون على كثير من العقاقير التي من المحتمل أن تكون خطيرةً؟ ربما يكون أحد الأسباب هو تضارب المصالح الكامن في هيكل الوكالة. ففي عام 1992، أقر الكونجرس للوكالة جمع رسوم من صناعة العقاقير لتغطية الكلفة المرتفعة لإقرار العقاقير الجديدة. وهذه الأموال يُدفع منها جانب كبير من رواتب المسؤولين عن إقرار العقاقير الجديدة. 
ويرى منتقدو الوكالة أن هذه الرسوم حولت الهيئة التنظيمية إلى شريك في الصناعة أكثر من كونها مراقباً لها. وهذه الرسوم يجري التفاوض بشأنها بين الوكالة وشركات العقاقير، وبناءً عليه يتقرّر مقدار المال الذي تدفعه الصناعة للوكالة وأيضاً وضع «معايير أداء» معينة يتعين على الوكالة الالتزام بها، مثل الالتزام بسرعة المراجعة. وفي بحث خلال عام 2017، بشأن تأثير تمويل الصناعة على الوكالة، كتب خبراء من كلية الطب في جامعة «هارفارد» يقولون إن «التركيز على السرعة والسلاسة وتلبية حاجات الصناعة.. ربما يعجّل بعمليات الموافقة، لكنه ربما يعزز أيضاً فرص عدم التزام العقار الذي يجري تسويقه حديثاً بشروط السلامة والفعالية التي كانت تتطلبها المعايير التقليدية». 
وذكر موظفون سابقون أن ثقافة الوكالة تكافئ الموظفين الذين يقرون العقاقير على حساب الذين يرفضون الموافقة عليها. فقد صرح توماس مارسينياك، الموظف السابق في الوكالة، لموقع «بروبابليكا» لصحافة التحقيقات على الإنترنت، في عام 2018، قائلاً: «لا يستمر المرء كمسؤول كبير في الوكالة الأميركية للأغذية والعقاقير ما لم يكن مؤيِّداً للصناعات الدوائية». كما أن المسؤول الكبير في الوكالة قد يحظى بمنصب مريح في شركات العقاقير بعد تركه الوكالة. وأشارت دراسة إلى أن 26 مسؤولاً عن مراجعة عقاقير السرطان وأمراض الدم تركوا الوكالة بين عام 2001 و2010. وذهب أكثر من نصفهم للعمل في شركات العقاقير. وسكوت جوتليب، رئيس الوكالة بين عامي 2017 و2019، أصبح عضواً في مجلس إدارة شركة فايزر. 
هل يمكن إصلاح الوكالة؟ هذا قد يتطلب شجاعة سياسية نادرة لتطبيق إصلاحات تعالج أعمق مشكلات الوكالة، مثل اعتمادها على أموال شركات صناعة العقاقير في تغطية كلفتها. والواقع أن شركات العقاقير ترغب دوماً في بيع المزيد من المنتجات، والمدافعون عن المرضى يميلون بشدة إلى الحصول على علاجات جديدة حتى لو كانت تنطوي على مخاطر على السلامة. لكن أحياناً يتصدى علماء شجعان لهذه القوى. فقد استقال ثلاثة مستشارين من الوكالة، في يونيو الماضي، احتجاجاً على الموافقة على عقار أدكانيماب. وذكرت الوكالة في الآونة الأخيرة أن ماريون جروبر، مديرة اللقاحات في الوكالة، ونائبها فيليب كراوس، سيغادران الوكالة قريباً. وربما تكشف هذه الاستقالات عن التغير الكبير الذي حدث منذ أيام كيسلي حين استطاعت أن تكبح جماح نفوذ الشركات الدوائية على الوكالة الأميركية للأغذية والعقاقير.

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»

Canonical URL: https://www.nytimes.com/2021/09/02/opinion/fda-drug-approval-trust.html