مع التحول الدراماتيكي في أفغانستان وسيطرة حركة «طالبان» على البلد الذي عُرف بـ«مقبرة الغزاة» والذي عاش حروباً أهلية مريرة، منذ الغزو السوفييتي.. ارتفعت أصوات المحللين والمنظرين من خلال كتابات ولقاءات لا حصر لها حول مستقبل أفغانستان، وحول الطرف الذي كان له أكبر الأثر في حياتها، وهو الطرف الأميركي.

والحقيقة أن سبب الكتابة حول هذا الموضوع هو كثرة التحليلات التي تتنبأ بنهاية العصر الأميركي وبداية عصر عالمي جديد، حيث يستند معظمهم إلى تلك المَشاهد التي وردتهم من أفغانستان لانسحاب القوات الأميركية والمتعاونين معها على وصفه البعض بأنه لا يتناسب مع قوة وعظمة الولايات المتحدة، القطب الأقوى في العالم على الصُّعد العسكرية والاقتصادية والعلمية والطبية، بل في معظم المجالات. لكن هل تلك الآراء أو التنبؤات واقعية؟

وهل فعلاً انتهى العصر الأميركي؟ بدايةً، علينا أن نتذكر أن الولايات المتحدة خاضت العديد من الحروب في تاريخها، وربما أقرب ما يكون لتجربتها في أفغانستان تلك التي خاضتها في فيتنام، حيث قارن كثُرٌ بين طريقة الانسحاب من البلدين، وتحديداً لقطات الطائرات المروحية المغادرة من سفارتي الولايات المتحدة في كل من سايغون وكابول.

ومع أن المطابقة بين التجربتين أمر غير منصف، إلا أن الرئيس الأميركي جوزيف بايدن أوضح أن دخول أفغانستان لم يكن من أجل بناء دولة هناك، بل من أجل القضاء على تنظيم «القاعدة» بعد هجمات 11 سبتمبر، ذلك اليوم الذي ترك انعكاساته على العالم أجمع، وغيّر الكثير ليؤسس لمرحلة جديدة من الحرب ضد الإرهاب الدولي، فكان أن أُسقط حكم «طالبان» الأول في كابول وقُدم دعم عسكري ضخم للحكومات الأفغانية المتعاقبة التي فشلت في تأسيس دولة حديثة متماسكة وجيش قوي، على الرغم من أن الإنفاق الأميركي هناك خلال 20 عاماً قد تجاوز تريليوني دولار، من ضمنها مدفوعات لإعادة إعمار أفغانستان وتزويد الجيش الأفغاني بالمعدات والأسلحة المتطورة، حيث خدم هناك ما يقرب من 9 آلاف جندي أميركي.

لكن في الحقيقة لا يمكن تحميل بايدن وحده عواقب هذا الانسحاب الذي أقرّه الرئيس السابق دونالد ترامب ووضع مخططاً له، وتركه للرئيس بايدن الذي كان لا بد أن يغلق هذا الملف المستنزِف للثروات الأميركية. لكن الأخير كان يتمنى لو أنه أتم هذا الانسحاب بهدوء ومن دون مقتل جنود أميركيين، الأمر الذي ترك أثراً كبيراً عليه، سواء في الداخل أو في الخارج، وهذا ما جعل الطرف المقابل متمثلاً في الحزب الجمهوري يستغل الفرصة ليهاجم «الديمقراطيين» ويحمّلهم المسؤولية كاملةً، ولينطلق الحديث في وسائل الإعلام عن ما تسببه تلك الصور القادمة من كابول، لاسيما صور نعوش الجنود الأميركيين، من إضعاف لهيبة أميركا ودورها في العالم.الحقيقة مرةً أخرى ليست بتلك القتامة، فأميركا ما تزال أقوى دول العالم على الإطلاق، ويكفي أن نعلم حجم ميزانية وزارة دفاعها لعام 2022 والمقدرة بنحو 715 مليار دولار، وميزانيتها العامة التي تتجاوز 3.5 تريليون دولار، وهذه الأرقام الفلكية لا يوجد مَن يتجاوزها. ولغة الأرقام تعكس واقع حال هذا البلد، أما الحديث عن الانكفاء الأميركي، فاعتقد أن له علاقة بمن يحكم، الحزب الديمقراطي أم الحزب الجمهوري، حيث عرف عن الأول اهتمامه بالدبلوماسية والقوة الناعمة أكثر من الحزب الجمهوري الذي يفضل إظهار قوة أميركا وعظمتها. أما عن الحديث عن انهيار وشيك للولايات المتحدة فهو مجرد مبالغة كلامية، لأنه إذا كان القصد الانهيار الاقتصادي فهذا سيطال كل العالم وستترتب عليه مرحلة جديدة في تاريخ البشرية قاطبة.

*كاتب إماراتي