يبدو التساؤل المطروح على موائد النقاش الدولي في الأسابيع الأخيرة، موصولاً بنوع خاص بدور الولايات المتحدة الأميركية على الصعيد العالمي، وهل تغير هذا الدور في ضوء الانسحاب من أفغانستان أم لا؟ الشاهد أن علاقة واشنطن بالعالم الخارجي مرت بعدة أطوار، فقد كانت على سبيل المثال وفي زمن الحرب العالمية الأولى بعيدة عن الصراعات الدائرة في العالم القديم، حيث التطاحن بين الأوروبيين والروس وبعضهم البعض، وربما هذا ما أتاح لها فرصة ذهبية استغلتها لتهيئة أوضاعها الاقتصادية، لتضحى بعد ذلك قوة إمبراطورية قادرة على مقارعة النازية والفاشية، ومن هنا كان التحول المهم في الطريق إلى قيادة العالم خلال الحرب العالمية الثانية، ذاك الذي كلل بالنجاح الباهر.

تالياً، وخلال أربعة عقود الحرب الباردة، يمكن القطع بأن واشنطن لعبت الدور المحوري الرئيس في مواجهة حلف وارسو، وقادت العالم الأوروبي الحر، أو أوروبا الغربية في مواجهة الزحف السوفييتي، وقد قدر لها أن تحقق نجاحات باهرة في هذا السياق دفعة جديدة. ومع سقوط الاتحاد السوفييتي وتفككه بنهاية ثمانينات القرن المنصرم، أعلن الرئيس الأميركي جورج بوش الأب أن نظاماً عالمياً جديداً قد ولد، وما لم يقله الرجل بالتصريح، فهمه العالم بالتلميح، أي أن أميركا باتت شرطي العالم ودركه، وأضحت الفاعل واللاعب الوحيد على الساحة الدولية، فهي القائد وعلى الجميع السمع والطاعة.

ثلاثة عقود لاحقة تغيرت فيها المشاهد في الداخل الأميركي بصورة مثيرة للتأمل، فقبل عقدين من الزمان تحديداً، استطاعت واشنطن تجييش العالم كله تقريباً، باستثناء موسكو وبكين، لتنفيذ حربها ضد الإرهاب بحسب رؤيتها، تلك التي بدأت من أفغانستان وامتدت إلى العراق. حين انتهت ولاية بوش الابن عام 2008 تفاءل الأميركيون بالرجل الذي تجرأ على الأمل، أي باراك أوباما، غير أن ثماني سنوات أثبتت أنه كان أملاً واهياً، فقد فضل الرجل القيادة من وراء الكواليس، ما أختصم كثيراً من النفوذ الأميركي حول العالم.

في تلك الفترة أرتفع صوت الانعزاليين في الداخل الأميركي، أولئك الداعين للاهتمام بشأن أميركا فقط، وليذهب العالم ما شاء له أن يذهب.

جاء دونالد ترامب ليعزز من ذلك التوجه، وليفسح الطريق لأميركا قوية، ومن دون أدنى اعتبار لرقعة الشطرنج الإدراكية الدولية. واليوم وبعد عشرين سنة من تصدي واشنطن لقيادة العالم، تبدو أميركا رافضة لقيادة التيار الأممي إن جاز التعبير ومهمومة بل محمومة بالداخل المتشظي اجتماعياً وعرقياً وفي هذا الخطر الكبير الذي يلاحقها.

هل تملك أميركا رفاهية التخلي عن دورها العالمي؟ الحقائق المتوافرة حالياً تشير إلى حالة إحباط في الداخل الأميركي بعد الانسحاب من أفغانستان، لا سيما لدى الجيل الذي عاصر الحرب الباردة والنجاحات الأميركية خلالها. غير أنه وفي الوقت عينه لا تبدو هناك أي رغبة في خوض مغامرات عسكرة خارجية مرة أخرى، ما يعني أن واشنطن لم تعد بالمطلق راغبة في قيادة العالم، وفي ذات الوقت غير قادرة على التخلي عن مربعات نفوذها التي اكتسبتها طوال العقود الثلاثة الأخيرة التي انفردت فيها بالهيمنة على العالم. واشنطن في حيرة من أمرها، وقد تأخذ بعض الوقت لتحديد موقعها وموضعها في ما بعد النظام العالمي الجديد.

* كاتب مصري