لم تنته متاعب الولايات المتحدة في أفغانستان بعد إتمام انسحابها في موعده. انتهى فقط التوتر الذي صاحب الانسحاب بسبب خلل انتاب خطته، وعوَّضه جزئياً تنفيذ أكبر عملية إجلاء في التاريخ في أقصر فترة، وبأقل مقدار من الخسائر.
ترك الأميركيون أفغانستان، لكنهم لا يستطيعون التخلي عن دورهم في وسط آسيا وشرقها، ولهذا صار أكثر ما يشغلهم الآن هو تحديد السياسة التي سيتبعونها إزاء الوضع الجديد في كابول، وكيفية إدارة علاقاتهم مع نظام حكم «طالبان».
ليست واضحةً بعد اتجاهات هذه السياسة. ويركز الخطاب الرسمي الأميركي على أن «طالبان» أمام اختبار يتعلق بمدى تطابق أفعالها مع أقوالها، وخاصةً بشأن القضايا الأكثر إثارةً لاهتمام واشنطن، والالتزام بشروطها الأساسية وهي عدم تقديم مأوى أو ملاذ لتنظيم «القاعدة» أو أية حركة إرهابية، واحترام حقوق الإنسان مع تركيز خاص على حقوق المرأة في العمل والتعليم، وقبل ذلك فتح الباب أمام الأفغان وغيرهم من الراغبين في المغادرة، وعدم الانتقام من أشخاص عملوا مع الأميركيين وحلفائهم.
غير أن المعلومات المحدودة المتاحة حتى الآن بشأن النقاش الجاري في أوساط فريق بايدن للأمن القومي تُفيد بوجود اتجاهين يتبنى كل منهما خياراً مختلفاً. يفضل أحد هذين الاتجاهين السعي إلى احتواء «طالبان» عبر مزيج من المُغريات والضغوط، أي اعتماداً على الجزرة والعصا، لدفع الحركة نحو إبداء مرونة يُرجح أنصار هذا الخيار أنها لن تظهر بشكل فوري. أما الاتجاه الثاني فيتبنى خيار المواجهة، ويحث على الاستعداد لها، والاتفاق على أدواتها، وطريقة استخدام كل منها.
وهذا تباين طبيعي في الرؤية والمنهج يحدث مثله أحياناً تجاه بعض القضايا. لكنه يرتبط في الحالة الأفغانية الراهنة بارتباك كان واضحاً منذ بدء الانسحاب، وازداد تحت وطأة مفاجأة وصول طلائع حركة «طالبان» إلى كابول بأسرع مما توقعته الأجهزة الأميركية المعنية. 
والحال أن لكل من الخيارين عيوبه ومزاياه. خيار المواجهة قد يفرض على واشنطن التورط في أفغانستان بشكل آخر، وهي التي انسحبت لكي تُعيد توزيع مساحة الاهتمام التي أعطتها لها لمدة عقدين على مناطق وقضايا أخرى. كما أنه يضع واشنطن في اختبار قوة جديد في أفغانستان، ولكن مع الصين وروسيا وإيران هذه المرة. فلكل من الدول الثلاث مصالح في أفغانستان، وربما تجد في مساعدة «طالبان» مدخلاً لتأمين هذه المصالح حال اتجاه واشنطن إلى المواجهة. وهذا فضلاً عن أنه ليس من مصلحة أميركا حدوث مزيد من الاضطراب في أفغانستان، بل تعويمها لكي لا تحدث موجة هجرة كبيرة منها، أو يتمكن «داعش-خراسان» من دعم نفوذه فيها.
أما خيار الاحتواء فيتطلب من واشنطن التحلي بالصبر، كما يفرض عليها التغاضي عن بعض الشروط التي وضعتها لإقامة علاقات إيجابية مع حكومة «طالبان»، وسبقت الإشارة إليها، لأن التزام الحكم الجديد بها كلها ليس أكيداً.
ولهذا يبدو صعباً حتى الآن الاستقرار على أي من الخيارين، الأمر الذي يدفع إلى تأجيل حسم الموقف لبعض الوقت، وتبني إجراءات مؤقتة مثل إبقاء «طالبان» على لائحة المنظمات الإرهابية لأجل غير محدد، وتجميد أرصدة حكومة كابول السابقة الموجودة في المصارف الأميركية والأوروبية، واستخدامها وسيلةً لمزيج من الضغط والتحفيز، إذ تشتد حاجة حكومة «طالبان» إلى هذه الأرصدة لسد الحاجات الأساسية، إلى أن تُدبر أمرها، وتتبنى سياسة اقتصادية تضع حداً للاعتماد على المساعدات الغربية إذا وجدت إلى ذلك سبيلاً.
وربما يُتيح تجريب إجراءات مؤقتة فرصة لبلورة سياسة أميركية مركبة تجمع بعض جوانب كل من الخيارين الآنفين، علّها تكون قابلة للتحمل وأكثر جدوى.


مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية