تحدثنا المرويات القديمة عن عمق علم ومعرفة المغفور له خليفة بن أحمد بن ثالث الحميري بالنخيل، وقد أكرمتنا يداه الكريمتان بزراعة نخلتين من الخنيزي أمام بيت أختي سمية في عام 1984، وننتظر إنتاج هاتين النخلتين بفارغ الصبر كل عام، فطعم الرطب أقرب منه إلى العسل «ورطبة وحدة جدام الفنيال» تجعلنا في سعادة دائمة. كم من المرات تساءلت ما سر هاتين الشجرتين؟ شجرة مباركة، يدٌ كريمة، قلبٌ لا يعرف الحقد! اتصلت بأختي لأسألها وأستزيد بما يطفئ لهب فضولي فقالت: «يا عائشة.. هؤلاء الناس غير.. قلوبهم شفافة.. ومعانيهم ومواقفهم خير مثال على جمال موروث دولة الإمارات العربية المتحدة».
 تذكرت ما روته لي والدتي عن خليفة بن ثالث، فقالت: «يقولون إن أحد الشيوخ بغى يختبر بن ثالث وياب له صينية فيها أنواع مختلفة من الرطب.. تفحصها الخبير وقام يصنف كل نوع باسمه ويصف التربة التي أتى منها والماء الذي ارتوى به»، وليس ذلك بغريب عليه فقد ورث ذلك عن والده أحمد بن ثالث الذي كان وكيلاً عن نخل الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم -طيب الله ثراه- والمسؤول عن «الغريفة»، وهي مجلس الشيخ في نخل عبدالله بن علي بالعبيدة، وكانت النخل بحسب رواية المرحوم عبدالله بن علي الشفعار المنشورة «تعرف بنخل أم الشيف، حيث سماها بالعبيدة بهذه التسمية نسبة لتشابه زريبة نخلة هذه بهير أم الشيف البحري، وهير أم الشيف البحري من مغاصات اللؤلؤ، وكان أطول هير بحري، وكان يرتاده ابن عبيدة وعائلته وجماعته أيام الغوص».
تمضي السنوات وتتجلى لنا سنة بعد سنة إصدارات للباحث الشاب جمعة خليفة أحمد بن ثالث الحميري، فتثرينا إصداراته للمعارف المتوارثة وعلوم ذات مصداقية عالية وقيمة توثيقية لتراث وثقافة وحضارة دولة الإمارات العربية المتحدة. لقد أصبحت هذه المؤلفات مراجع يعتمد عليها وعلى أصحابها في النزاهة والوفاء والعطاء للوطن. في جلسة عصف ذهني الأسبوع الفائت هب «بوسيف» من مقعده عندما رآني مقبلة، وطلب مني أن أأخذ مكانه من المجلس.. لحظة صمت استرجعت فيها عمق هذا السنع وجمال ما تعلمته هذه الأجيال من آبائهم وأمهاتهم. وبعد القهوة والحوارات الساخنة سألته إحدى السيدات: أستاذ جمعة، هل دخلت النساء عالم الغوص على اللؤلؤ.. يتردد أحياناً بأن بعض النسوة خضن هذه التجربة في الزمن الماضي؟ فرد عليها: «للمرأة مكانٌ محفوظ ومقدر في مجتمعنا، وقد سمعنا أن بعض النسوة كن يقمن بما نسميه محلياً »الجني« وهو جمع المحار الذي تتركه الأمواج عند الجزر وانحسار الماء، ويقال إن بعض المحار كان ينفتح من تلقاء نفسه، فتجد هذه النسوة اللؤلؤ بالقرب من أصداف المحار المفتوحة».
للعارفين أقول: أجيال تنقل العلم والمعرفة، ولولا جهود هؤلاء والتوثيق وحفظ ذاكرة الزمان والمكان عبر ذاكرتهم والتاريخ الشفاهي لما تعلمنا منهم قواعد الجمال والتسامح، وما يعزز الموروث والولاء والانتماء للوطن والقيادة الحكيمة، وما يعمق جذورنا في الثقافة واللغة العربية فإن وقفنا عند كلمة جَنِيَ ومنها الجَنَى: أي كلُّ ما يُجنى من الشَّجَر نجد كماً هائلاً من الصور البلاغية أعطاه الأولون في مصطلح «جني» تعبيراً عن القطف عوضاً من الغوص والعناء... والباقي عندكم.