«الماء لا يجري للأعلى»، أي أن تخلق أي فراغ سيستدعي إحلالاً من عنصر مؤقت قد يتحول إلى دائم، وجغرافيا الشرق الأوسط تمر بحالة غربلة سياسية مستعصية نتيجة غياب رؤية استراتيجية تتجاوز التعثر بتحديات التفريغ السياسي.

وحتى الآن، لا تزال العناوين العريضة تتمحور حول محاربة الإرهاب، في حين أن الأولوية توجب التحول إلى فرض الاستقرار، وبكل الأدوات المتاحة وغير المتاحة إن لزم الأمر، وذلك لضمان استدامة الاستقرار، فتلك مسؤولية الإقليم المتضامن وتعبيراً عن إرادته السياسية. عموم ما طرح من مشاريع وتصورات للمنطقة، بما في ذلك إعادة صياغة الجغرافيا السياسية والاجتماعية، لم تمثل إرادة وطنية في أي من دول الإقليم، إلا أن تَخلّق إرادة سياسية إقليمية حال دون اتساع رقعة الجغرافيا التي أُخضعت لتلك التجارب «السايواجتماعي» Sociopolitical. ومع تطور المفاهيم من فلسفة الحكم، والتحول الاجتماعي، والعدالة الاجتماعية إلى التنمية الاستراتيجية، إلا أن تحديات التحول من ثقافة إلى أخرى جديدة سيتفاوت من دولة إلى أخرى ومن مجتمع إلى آخر. إلا أن ذلك قد يمثل خطأ استراتيجياً في حال التعذر بخصوصية الحالة أو في جملة ترجمات التباين نتيجة سلسلة التحول المرتبطة اجتماعياً. كذلك، من الخطأ افتراض صمود أدوات «الاحتواء» التي نجحت بالأمس أمام أخرى جديدة مستحدثة، أو ما أخضع منها لطبيعة «التحول (التطور) الطبيعي Natural Evolution».

ففي حين تتوجه الأنظار إلى المآلات الآنية لتخلي الولايات المتحدة عن أفغانستان، إلا أن الجميع يُغفل رؤية واشنطن الجديدة، والتي مفادها (إغراق الخصوم في مستنقع أفغانستان). ففي حال فشلت تلك الفرضية، فما تأثيرات مثل ذلك على الفضاء الجيوسياسي القريب منها. فتلك الجغرافيا المتصلة من جنوب الشرق الأدنى إلى الشرق الأوسط سوف تضيف لجملة تحدياتنا العامة والخاصة وعموم المنطقة، خصوصاً وأن عنصر الاستقرار الاجتماعي مفقود وغير ذي أولوية ضمن فلسفة تلك الجغرافيا السياسية.

خلال لقاء لي مع الصحافة الدولية بمناسبة مرور عام من توقيع المواثيق الإبراهيمية بتنظيم من قبل «ميديا سنتر» الإسرائيلي، وجه لي سؤال من قبل ممثل مجلة «فورن بولسي» الأميركية: هل سيعني انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان انخراطاً أميركياً أكبر في ملفات شرق أوسطية أخرى مثل الملف اليمني؟ أجبت بالتالي: على دول المنطقة تطوير مفهومها الخاص بضمانات الأمن الإقليمي (الشرق الأوسط) بمعزل عن رؤى واشنطن وبما يتجاوز «النسبية» إن لزم الأمر، وكذلك على أوروبا أن تعبر عن إرادة حقيقية تجاه أمن المتوسط لارتباطه بأمنها الاستراتيجي وعموم الشرق الأوسط. هل سيتعذر الاستدلال الاستراتيجي نتيجة ما يُثار من غبار التباين مرة أخرى، ذلك هو التحدي الأكبر الآن أمام المنطقة، ويجب عدم افتراض أن وجود فرنسا في مؤتمر جوار العراق يؤذن بإحلال أوروبي مقابل تراجع أميركي، بل علينا أن ندرك واقعاً آخر يتمثل بالآتي: هل سيستطيع العرب إدارة ملفاتهم بواقعية؟ ومتى سيتعاملون مع كافة التحديات بما يتناسب من أدوات قادرة على تمثيل إرادتهم السياسية؟

* كاتب بحريني