لا أعتقد أن بلداً في العالم مثل فيتنام انطبق عليه قول بيت الشعر العربي: والأذن تعشق قبل العين أحياناً، لأن فيتنام وصلتنا من الراديو ونشرات الأخبار، ثم الأفلام الوثائقية والروائية عن حربها التاريخية، وظلت تفصلنا عنها، وعن مشاهدتها مسافات وحدود وأنظمة أيديولوجية صارمة، لكن بقيت روح المسافر متحفزة لأول اللقاءات، وتأهب النفس للدهشة والمفاجآت. من الأشياء التي تصدمك حين تدخل مدينة «هو تشي منه» الفيتنامية، والتي يصر سكانها الأصليون أن يسموها باسمها القديم «سايجون» والتي تعني «التقاء النهرين»، غاضين الطرف عن اسم قائد التحرير الذي تحمل اسمه منذ عام 1976، والذي يحبونه ويقدرونه كرجل وطني عظيم أتى من الشمال وحررهم ووحدهم، في تلك المدينة غير العادية، هناك أمران صادمان: كثرة الدراجات النارية، وهي ليست كما نتصورها من الشبيهات عندنا أو مثل تلك التي تظهر في الأفلام الأميركية، هبّ دراجات «ترتر أو سكوتر»، حيث بلغ عددها 5 ملايين دراجة نارية لمدينة عدد سكانها 7 ملايين نسمة الذين يتندرون: «أن من لا يملك دراجة في فيتنام صعب عليه أن يتزوج أو يرزق بصديقة»! سائقو الدراجات هم من لهم الكلمة الفيصل في الشارع، لا أصحاب السيارات، ولأول مرة أرى سائق شاحنة يخاف من سائق الدراجة!
الأمر الثاني الصادم في فيتنام هي بنية الإنسان، بحيث «ممنوع المتان أو الضخام في فيتنام» خصور النساء، وغالباً هن جميلات لا يزيد قياس خصورهن على 14 سم، والرجال لا يتعدى وزنهم 60 كيلوغراماً، وهي صفة غالبة عليهم، ربما لطبيعة الأكل والغذاء المعتمد أساسه على الخضراوات والفواكه والأعشاب والطحالب، وربما لأن الشعب كله عامل ويتحرك منذ الفجر، ولقد حلف لي واحد منهم، وهم كثر، وكنت لا أريد منه حلف اليمين، لأنهم من أصحاب الشمال، أنه يحاول منذ عامين أن يسمن، لكنه لم يستطع، لذا حظ الأكلات السريعة هنا ضعيف، ليس لأنهم مازالوا متمسكين بتعاليم الثورة، وتعليمات الحزب، بل لأنهم لا يستسيغونها، وتلعي أكبادهم، ولقد زرت مطعم «كنتاكي» في «سايجون» من باب التجربة، رغم أن رأيي فيه معروف، وليس بيني وبينه أي ود في كل مدن الدنيا، لكن أعجبتني فكرة تحويل صورة وشخصية كنتاكي الأميركي السمين بلحيته البيضاء المميزة إلى شبيه له بالفيتنامي الضعيف والهزيل وبلحية فيتنامية متطاولة.
الفيتناميون حين يلمحون أن لديهم مواطناً سميناً، يحاولون معه بشتى الطرق أن ينزل إلى أوزانهم المتعارف عليها، ويخضع في البداية إلى دورة تدريبية، ويظل يعيش على الماء أياماً طوال، وإذا لم يصلح حاله، ولأنهم يخافون على بقية المواطنين أن يعديهم أو يشكل مجاعة للجيل القادم، يسمحون له بالهجرة على الفور بعيداً عن الديار الفيتنامية.
بين الأجساد الفيتنامية ودراجاتهم علاقة واضحة، فمقعد الدراجة يتسع لعائلة مثالية من أب وزوجة وطفلين، الرجال والنساء يرتدون قبعة السلامة، ما يميز المرأة هو قناع الوجه واللثامة والقفازات، خوف حرارة الشمس، والتلوث، فالمدينة تمطر يومياً لمدة 6 شهور، والستة الأخرى تبقى جافة، كنت أرى العائلة من أربعة أشخاص تستقر في حيز صغير، هو مقعد الدراجة بقدر الذراع، يسلكون الطرقات، وتخيلت لو أن عائلة عربية كانت مكانها، أولاً.. سيتنازع الجميع قبل الركوب، ثم ستزاحم المرأة زوجها بثقلها وعرضها، وقولها المتعدي عليه: «ضك عني شويّه، الله يأخذك»! وأخيراً سيرمي الزوج الأولاد عليها باعتبارهم ليسوا أولاده، برده عليها: «يودّي عيالك.. يعلك النفاد»! وتظل الزوجة تعايره طوال الطريق إلى السوق: «لو أنك مثل كل الرياييل، جان عندك بدل السيارة هنتين.. مب ترتر.. ياليتك بس لو مب فيتنامي»! وغداً نكمل.