مثل كهل يتعكز على عصا التاريخ ويمضي في معطف العزلة، لم يبق من كاهله سوى شطر، وكأنه رغيف الأزمنة الشحيحة، لم يبق منه غير أشباه جدران تهاوت على صدر الزمن، وها هو اليوم، مثل تلميذ كسول نسي القلم والدفتر، وبقيت حقيبة الذاكرة خاوية من عطر تنانير المساء، ورائحة الخبز الحافي، يقف البيت القديم، وكأنه علامة استفهام في آخر السطر.
يقف البيت العتيق مستنكراً رائحة بدت مبتلة بنزيف توابل أحرقت الأزقة، ونالت من ضمير معيريض التي كانت مسكونة بالقربى، ولا وجوه سوى وجوه الذين نسجوا سعف العريش، بأنامل نحاسية، ورفعوا سقف الخيمة على أكتاف أحبتها ونشروا شراع السفر على ذراع هواء الشمال، حيث كانت المرأة الطيبة، تلملم عدة السفر وتطوي عباءتها عند وقت الرحيل.
ماذا تبقى من مرايا، ووجوه، وأمشاط، وكحل؟ ماذا تبقى من حنين يخرج من بين الضلوع كأنه الشدو على لسان الطير، كأنه الحلم في عيون الناعسات، الكواعب، كأنه الشفافية على شفتين لميائيتين، كأنه الابتسامة الناجمة عن وهج في ضمير الكائنات النبيلة.
البيت القديم، كانت أم الدويس تحتله، كما تحتل الخرافة قلوب البسطاء، وكان الصغار ترتعد فرائصهم عندما تقفز لعبتهم المفضلة «كرة القدم» وتحط رحالها في فناء ذلك البيت، كانوا يتوقون لالتقاطها، ثم الهرب، ولكن أم الدويس كانت تتحرى الدقة في اختطاف الصغار، والذهاب بهم بعيداً، إلى حيث الغياب الأبدي وهكذا ظل بيت الفقاعي، مسكناً للحكاية الرهيبة، وموئلاً لقصة امتلكت القلوب، وسلبت الأفئدة، وخلبت الألباب، ولما كبر الصغار، وشبت منابت اللحى والشوارب، تلفتوا يمنة ويسرة، واستدعوا التاريخ، وصوره، فلم يجدوا أم الدويس، ولم يجدوا غير شيء من بيت مثله مثل الذاكرة المثقوبة لكل الناس في زمن الأشياء المهدورة.
توارى بيت الفقاعي خلف لفائف من ورق مشمع كتب عليه هذا بيت مراحل ما بعد الفراغ، هذا بيت الجمل التاريخية المبتورة، هذا بيت مثل بعير ناخت نواكبه، هذا بيت  علق في الطريق إلى المستقبل، بحجر الأفكار العدائية، فاضطر أن يختبئ في ثوبه المرقع، وينتهي به المطاف إلى نصف مكان، وشيء من زمان.
هذا البيت اليوم مثل كائن أصم يسمع أذان الفجر، ولا يدري لماذا الصدى يخرج من تلك المنارة المجاورة؟