أتذكر لمحات الطفولة البريئة، حين لم يكن الذكاء مقصوداً، بقدر ما تكون الأخطاء واللعب «الشقي» المسكوت عنه طالما هو يبقيني بأمان، وإلا غلب حضور «الأم» الحنون، فارضةً قسوتها «المصطنعة»، علها تفي بالحذر في المرات القادمة التي ربما لن أستطيع تفادي خطرها. كم تتشابه الأم مع الأرض! في العطاء والحضور والبهاء، وحتى في التحذير!

وفي سياق المخاطر التي تحيط بالإنسانية من كل حدب وصوب، فلابد من تقدير قوة الأحداث التي ترتطم بالجسد العالمي من خلال قياس تأثيرها على حالة «الطمأنينة» التي يعيشها الكثير من المجتمعات بشكل غير مبرر، إزاء تحدياتها، وأزماتها ابتداءً من «الصغرى»، ذلك أن تنبيه الأرض الأخير، متمثلاً بالأزمة العالمية (Covid 19)، لم تُسقِط حالة السكون والتسويف لحل المشاكل وحسب، بل أطاحت بطروحات فلسفية وفكرية متجذرة، وبخاصة تلك التي تمجد بالبطولات الإنسانية وقربها من خط البداية لحقبة «الدهشة» التطورية في الآلة والحضارة، والرقمنة الشاملة. فبالرغم من التّقدم العلمي والتّقني الهائل، لم يستطع الإنسان التنبؤ بما وقع، وبذلك فقد انقلب هذا الجو «الدرامي»، لصدمة حضارية، وانتكاسة للغرور البشري، وإنذار بضرورة متابعة سير «النضال الإنساني» وعدم استسهال غموض المستقبل.

والسؤال الذي يفرض حضوره، بعد إمعان معظم التحولات والتداعيات لأزمة الفيروس التاجي، هو ماذا لو اعتبرنا أن هناك فيروسات أكثر فتكاً من كورونا ستهاجم المجتمعات وتطحن مكتسباتها المتراكمة؟ وماذا لو لم تمهلنا الأزمات القادمة القليل من الوقت، كما فعلت كورونا التي استطاع الإنسان كبح شراستها من خلال بعض الإجراءات الاحترازية؟ لابد من التعمق في رحلة البحث عن الأجوبة، بعيداً عن الضرب في قدر فارغ لا ينفك يتجاوز التأرجح بين الطبيعية أو المصطنعة في محاولة تأويل سبب ظهور (Covid 19). هذه الأسئلة وغيرها الكثير مما يتبادر الآن لذهن القارئ من ميدان «الفلسفة الكورونية»، ليست من منطلق التشاؤمية، ولكنها من قبيل الاستعداد لتفادي الانتكاسة كتلك التي نواجهها من أواخر عام 2019، وإلى الآن حتى بات الإنسان يفقد «ذاكرته المعيشية» قبل هجوم كورونا، واجتياح «متلازمة الكمامة» فوق أنف الإنسان الذي أدمن الأكسجين دون تقدير مصادره، و«فرض التباعد» كعقاب قاسٍ على طبعه الاجتماعي!

وفي حين أن الدافع للتصورات والتنبؤات المستقبلية، لا يمكن استناده لشبكة معلوماتية من نسج الخيال، فإن الإنصات لصوت العقل يقول، بأن الاحتمالية أكبر لظهور المزيد من «المقاتلات الحربية المجهرية» من الفيروسات، والأمراض المعدية التي تتكاثر وتتوالد وتنتقل للإنسان من خلال مكون أساس في النظام البيئي (الحيوانات)، وبما يزيد على 60% من مجموع الأمراض المعدية التي تظهر على مستوى العالم، ومن تلك الأمراض حيوانية المنشأ فيروس ميرس (MERS- COV)، وسارس، وإيبولا، الذي حصد أرواح أكثر من 11 ألف إنسان، وإنفلونزا الطيور (H5N1)، الذي ألحق خسائر، وصلت قيمتها إلى أكثر من 20 مليار دولار أميركي.

وبحسب برنامج الأمم المتحدة للبيئة، فإن العوامل التي تزيد من ظهور الأمراض التي تنتقل للإنسان من الحيوانات، تتمثل في مظاهر متزايدة، ولا يمكن إيقاف بعضها من إزالة الغابات، والتحول في استخدام الأراضي، وتغير المناخ، ومقاومة مضادات الميكروبات باستخدام (Antibiotics)، وما يقوم به الإنسان من تدخل بتكثيف الزراعة والإنتاج الحيواني، والاتجار بالأحياء البرية غير المشروعة. إن نداء أمنا الأرض الأخير، بات أكثر حدة مما قبل، سيما في ظل ظروف قاسية وثقيلة وغير مألوفة على هوائها، ومائها، وترابها، وفي حين لا يمكن للإنسان تحمل مراقبة أمه تتألم، فلابد من خروجه من فقاعة «الأنانية»، واستعادة علاقته الطبيعية مع الأرض، التي يحمل انعكاسها تفوقه، وتطوره، وبقاءه!

*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة