في إطار تحديات الإصلاح الاقتصادي والمالي والاجتماعي، التي تنتظر حكومة لبنان المرتقبة، تبرز أهمية مخاطر النظام النقدي القائم وضرورة إصلاحه، خصوصاً بعد ما أدت «الدولرة» إلى إفقار أكثر من نصف الشعب اللبناني نتيجة تدهور سعر صرف الليرة، وتجاوز سعر «دولار بيروت» الـ 21 ألف ليرة، وكذلك تضاعف معدلات التضخم، وإقدام البنك المركزي على الإفراط في طباعة العملة الوطنية، حتى ارتفع حجم الكتلة النقدية خمس مرات من 8 تريليونات إلى نحو 40 تريليون ليرة، لكن كيف تم تحديد الدولار الأميركي «مرجعيةً عالميةً» لأي نظام نقدي؟

بعد الحرب العالمية الثانية عقد في عام 1949 اتفاق «بريتون وودز» الذي قضى بأن يكون الدولار مرجعاً لكل العملات التي تثبت سعرها نسبةً له، مقابل ثبات سعره تجاه الذهب (35 دولاراً للأونصة). وبذلك كانت عملات الدول ثابتة، وسلطاتها النقدية مستقلة، لأن حركة رأس المال لديها لم تكن حرة، بل مقيدة بقوانين، إلى أن انهار الاتفاق، وتحولت السوق العالمية لتصبح أقل تنظيماً وأكثر تحريراً لرأس المال.

لكن بعد مضي نحو 72 عاماً، هل بإمكان الدول التخلص من هذه التبعية؟ استناداً إلى «الثلاثية المستحيلة» التي حددها الاقتصاديان ماركوس فليمينغ وروبرت ماندل بثلاثة عوامل لا يمكن الجمع بين أكثر من اثنين منها، وهي: سعر الصرف الثابت، حرية انتقال رأس المال، واستقلالية السياسة النقدية.

فإذا كان سعر الصرف ثابتاً وحركة رأس المال حرة، لا يمكن للسياسة النقدية أن تكون مستقلة. مع العلم أن الاستقلالية تعني توفير إمكانية للبنك المركزي بأن يضع أسعاراً للفائدة بشكل مستقل عن أسعار الفائدة العالمية. لذلك لا يمكن تحقيق الاستقلال النقدي في ظل النظام المالي العالمي الذي يحفظ حرية رأس المال. وفي حال اختارت الدول الحفاظ على استقلالها النقدي والسيطرة على حركة رأس المال (دخولاً وخروجاً) فستخسر المنافسة مع الدول الأخرى، لأن مخاطر الاستثمار فيها سترتفع بالنسبة للمستثمرين، وبالتالي تخسر فرص الحصول على العملة الصعبة لتغطية مستورداتها.

وبما أن السلطات النقدية في لبنان قد اختارت نظام سعر الصرف الثابت منذ عام 1993، وتحول الاقتصاد اللبناني إلى اقتصاد استهلاكي يمثل الاستهلاك فيه نسبة 90% من الناتج المحلي الإجمالي. وفي إطار اتفاق سياسي دولي، وبوصاية خارجية وإقليمية، تخلى هذا البلد عن سيادته النقدية التي أصبحت متعلقة بسياسات «دول المركز الرأسمالي»، وخصوصاً الولايات المتحدة ودول المجموعة الأوروبية. حتى إن أسعار الفائدة باتت محكومة بمحدودية اجتذاب رأس المال، بدلاً من أن تكون أداة لتحفيز الاقتصاد والإنتاج. وبهذه الطريقة تم إغراق لبنان في أسوأ أنواع «التبعية النقدية».

لكن تبقى المشكلة الحقيقية تكمن في بنية النظام النقدي وفي استخدام الدين العام لبلوغ أهداف نقدية على حساب سلامة أوضاع الخزينة، لذلك يجب وقف سياسة تشجيع «دولرة» الاقتصاد، والتخلي تدريجياً عن نظام النقد «المزدوج»، لأنه لا يمكن أن تتعايش فيه عملة محلية ضعيفة مع عملة دولية قوية. ووفق أحدث الإحصاءات فقد وصلت دولرة الودائع في لبنان، في يونيو الماضي، إلى 80.3%، وهو أعلى مستوى منذ 28 عاماً، بينما تراجعت دولرة التسليفات إلى 58.4%، وهو أدنى مستوى لها منذ 34 عاماً. ويعود الانخفاض في دولرة التسليفات إلى أن المقترضين يسددون قروضاً بالعملات الأجنبية أكثر منها بالليرة اللبنانية.

*كاتب لبناني متخصص في القضايا الاقتصادية