حسناً.. إليكم هذه البديهة.. «المعرفة أمر لاحق للجهل». وبالتالي.. كلما كان الجهل معلوماً، تحققت المعرفة.
المفترض أن تلك الحقيقة منطقية وطبيعية تماماً، ويمكن إدراكها بتأمل تراتبية الأشياء، غير أن الواقع يثبت كل يوم وعبر تجاربنا مع البشر أن هناك من لم يحاول قط أن يتأمل هذه التراتبية، فتجده يقول لك بكل ثقة: كيف لا تعرف ذلك! دون أن ينسى -في كثير من الأحيان- أن يُصبغ استفهامه بنبرة من الاستخفاف على اعتبار أنه يملك ما لا تملك!
للأسف.. أتعامل باستمرار مع أناس كهؤلاء، تزداد هذه الحالة كلما عرف المتحدث أمامي أني أعمل في «مجلة ناشيونال جيوغرافيك العربية»، وكأنه لا يحق لي أن أسأل أو أندهش، فلا يجوز ذلك، فكونك تعمل في هذا الحقل الذي يتناول كل شيء، فهذا يعني أنك يجب أن تعرف كل شيء! والحقيقة أني حاولت مراراً بلا جدوى أن أستوعب من أين لهم هذا الوهم! فحتى على مستوى كل العلماء والمتخصصين في العلوم يؤكدون في كل مرة أنهم ما زالوا يبحثون، وأن ما توصلوا له ما زال غير مؤكد، وأن إمكانية الرد عليه مؤكدة بنسب تكاد تتساوى مع نسبة صحته، ورغم ذلك، نجد من يصر أن ما قرأه أو سمعه هو الحقيقة المطلقة.
من قال لا أعلم.. فهو يعلم تماماً مقدار علمه. ورغم ذلك يتسابق الجميع ليبدوا وكأنهم يعرفون كل شيء عن أي شيء. ويبقى السؤال وطرحه إساءة لصاحبه ووصمة سُيعاب عليها كلما تذكرها من حضر سؤاله، ولسان حالهم يقول: كيف لا يعرف! وللأسف لدى المثقفين حالة أخرى قريبة من تلك، كأن يقول لك أحدهم: معقولة لم تقرأ هذا الكتاب؟! أو كيف لم تقرأ لذاك الكاتب حتى الآن؟! هي صيغ أخرى تشبه تلك التي يخبرك فيها محاورك أنك جاهل لأنك لا تملك ما يعرفه هو، ولكن هل يعرف هو كل ما تعرفه؟ ألم يسبق معرفته تلك جهل واقع لم يزِله إلا المعرفة اللاحقة! الحقيقة أننا كبشر لا نعلم، وكلما علمنا تأكد لنا جهلنا، وهي حقيقة يدركها الآخرون الذين يزدادون علماً كل يوم لأنهم يدركون تماماً معنى جملة «لا أعلم»، والفائدة الفعلية من طرح الأسئلة، والحقيقة العظمى أن لا أحد يعرف كل شيء.