بادئ ذي بدء، دعوني أشير إلى أنه يوجد تفكير أساسي مفاده أن العولمة يدخل فيها الترابط والتداخل المتسارع على المستوى العالمي في جميع مناحي الحياة الاجتماعية المعاصرة، بدءاً بالثقافة، مروراً بالاقتصاد، وانتهاءً بالجريمة المنظمة كأمثلة، لكن فيما وراء ذلك يوجد عدم اتفاق حول كيفية صياغة مفاهيم العولمة، وكيف يمكن أن ينظر إلى تفاعلاتها السببية، وكيف يمكن تجديد نتائجها البنيوية، لكن ما يهمنا من العولمة على صعيد السياسة الخارجية لدولة الإمارات العربية المتحدة، هو وجود رابط يتزايد، وإن كان بشكل غير محسوس حتى الآن بوضوح بين العولمة الحديثة وتناقص دور الدولة الوطنية في إدارة شؤونها كافة، سواء كان ذلك على صعيد السياسة الداخلية أو السياسة الخارجية.

والأمر لا يحتاج إلى كثير من الذكاء لمعرفة هذه الحقيقة، فبالنظر إلى العالم عبر الاقتصاد والتجارة الدولية يتم اكتشافها، فهي واضحة وضوح الشمس. وفي الوقت الذي يرى فيه أصحاب الاقتصاد السياسي أن انفتاح الدول على بعضها بعضاً مرتبط بقوة كل دولة على حدة عبر فعالية صراع المصالح الداخلية فيها، يرى آخرون العولمة الحديثة بأنها تحدث نتيجة للتغيرات الأيديولوجية التي تلم بالحكومات الوطنية.

وبالنظر إلى أحداث عالمية كبرى هزت اقتصادات العديد من الدول كـ«كوفيد- 19»، والحروب، وانهيار العملات الوطنية، يلاحظ بأن الانتشار العالمي لمبادئ الحرية الاقتصادية الحديثة أدى إلى تقلص الشرعية الخاصة بضلوع الدولة الوطنية الواسع في الاقتصاد في جميع أقطار العالم تقريباً وقلل من قدرة الحكومات الوطنية على فرض الحماية ضد مخرجات الأسواق الحرة المفتوحة، وتعود جذور موجات عدم التدخل في الاقتصادات الوطنية إلى التحولات العميقة والمعقدة في القيم السائدة في المجتمعات الرأسمالية.

إن بيت القصيد من طرحي لجوانب من مؤشرات مقولات العولمة الحديثة وعلاقة السياسة الخارجية للإمارات بها، هو التأكيد على أن ظاهرة وجود الدولة الوطنية القائمة في عالم اليوم هي الأكثر نجاحاً، لذلك فإن ما يمكن للقائمين على السياسة الخارجية لدولة الإمارات القيام به، هو فهم أن وجود الدولة الوطنية وبناها المؤسسية واستمراريتها أمر حتمي. وعليهم أيضاً الوعي بأنه إلى جانب وجود الدولة الوطنية سيتواجد اقتصاد عالمي، أثمان كل شيء فيه مرتفعة وغير منظم ومتطفل يقتحم الحدود الوطنية للدول دون استئذان.

وهذه الصفات ستشكل المؤشر المستقبلي للفرص المتاحة أمام دولة الإمارات التي يمكن الاستفادة منها، وللمخاطر التي ستواجهها وتهدد مصالحها ويتوجب عليها التصدي لها ومعالجاتها وحل طلاسمها والتخلص منها. جميع ذلك يحتم على السياسة الخارجية لدولة الإمارات، وهي في عامها الخمسين أن تسعى بشكل متزايد إلى فهم العلاقة النسبية بين قوة الاقتصاد العالمي وضعف المجتمعات البشرية التي تواجهه، وبأن ذلك هو نتاج لترتيبات سياسية محددة ولثقافات وطنية أجنبية مختلفة عن ثقافة مواطني دولة الإمارات، وبأنها ليست نتيجة لوجود مزايا طبيعية متنوعة تخص هذه المجتمعات، ومنها مجتمع دولة الإمارات.

إن تركيبة هذه العناصر تجعل من المرجح أن يكون العصر الحديث للعولمة مليء بكافة أنواع الصراعات الدولية حول الاقتصاد، وطبيعة تلك الصراعات ستتركز في وجود خليط من الرؤى المتضادة لكل من الحقوق والواجبات، والمصالح الذاتية ومصالح الأطراف الأخرى. وفي الأغلب يمكن أن تظهر مشاكل محددة على مدار المعمورة لا بد للسياسة الخارجية لدولة الإمارات أن تستوعبها وتعيها، وأن تكون مستعدة للتعامل معها بحكمة واقتدار. وعليه فإن الصراع بين المجتمعات المقتنعة بالعولمة ونقيضها يهدد بإعادة فتح خطوط قديمة من عدم الاستقرار الداخلي للمجتمعات، وهذا النمط من الصراع الدولي لا بد للسياسة الخارجية للإمارات أن تعيه وتستعد للتعامل معه على الصعيدين السياسي والاقتصادي، لأن مثل هذا الوعي هو الذي سيخفف من وقع الآثار السلبية للعولمة على مستقبل دولة الإمارات وعلاقتها بالخارج.

* كاتب إماراتي