بعد ما ودّعنا الثانوية، كانت هناك مدن عديدة ومختلفة تحتل رأس كل واحد منا، نحن الذين تتنازعنا مدينة عشناها، ومدينة تعيش فينا، معظمنا أعلن نيته عن التوجه إلى المدن الأميركية التي كان يجهلها، ويجهل معنى العيش فيها، وكيف يمكن أن تستقبله في غربته الحقيقية الأولى، والبعض فضل القرب عن أن يعبر المحيط إلى أمريكا فاختار لندن أو المدن البريطانية، مدن فرنسا لم تكن في الحسبان للحاجز اللغوي، وأيامها لم تكن استراليا الكبيرة أو كندا البعيدة على خارطة هوى الطلاب التعليمي.
بعد سنوات خمس من إتقان اللغة والتعليم الجامعي، وتجربة الحياة في الغرب المتوحش، رجع البعض وقد أرتد إلى الحياة البسيطة والتدين ومحاولة الالتجاء والاقتداء بحياة الصحابة التي لا يعرفها إلا ما نقله الساردون وحكاه المؤرخون، جاءوا متطرفين نحو أقصى اليمين، البعض الآخر عاش حياته الجديدة، وجرب الذي لا يجرب في حياة الغرب وذهب إلى التطرف في أقصى الجهة الشمالية، والبعض ظل عائشاً متحصناً ومتدثراً بأصدقاء من الوطن، مثل هؤلاء بنوا «الغيتو» الخاص بهم في مدن أمريكا، حتى أكلهم، وممارسة طقوسهم الاجتماعية ظلوا يفعلونها كجزء من مفردة يومهم، هؤلاء بعدوا في المسافة، ولكنهم كانوا قريبين من مدنهم التي غادروها، قليل من أصابتهم صدمة الحضارة أو وجع الوطن كما يسميه الفرنسيون، فقطعوا الدراسة، ناجين بأنفسهم، لائذين بمدنهم، وهناك من كان عكسهم تماماً. ظلوا يمطون في السنوات الدراسية كسلاً، ووفق إيقاع حياتهم المنفلتة في الغرب، وتباعداً لخطوات العودة للمدن القديمة، معظم هذه الشريحة، حين رجعوا من بريطانيا أو أمريكا لم يستطيعوا التأقلم من جديد مع مدنهم القديمة، وإعادة التأهيل لم تنفع الكثيرين منهم، فضاعوا في دروب الحياة، والبعض تمكنت منه الأمراض النفسية فأنهكت الروح والجسد.
هناك فئة ظلت تدرس وتحرق المراحل لتعود لكي لا يفوتها العمل، وسماع نغمة خريج أمريكا، هؤلاء نجحوا، لكنهم لم يعرفوا أمريكا بقدر ما عرفوا المقاعد الدراسية في صفوف كلياتها، بقي هناك دراويش المدن، أولئك المخلصون لمدنهم القديمة والمدن الجديدة، يفرحون حين يرون الحياة وألوانها وبهجة الدنيا ومعارفها، لكنهم حين يدخلون مدنهم القديمة تجد رئتي الواحد منهم تتنفس بعمق، وكأن كل الهواء النقي دخلها فجأة، فتسمع تلك التنهيدة التي لا معنى لها إلا أنه دخل المدينة التي يعشق، والمدينة التي عاشت فيه طوال الوقت، دواوين المدن لديهم أمنية وحيدة وأخيرة، ليتهم يدفنون تحت ظل تلك النخلة التي كبرت معه، ودفن شعره الزغب بجانب جذرها، لتبقى تظلله في خاتمة رحيله الأخير عن المدن، بين مدينة عاشها، ومدينة عاشت معه.