الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

د. عبدالله الغذامي يكتب: أنفاس الآخرين

د. عبدالله الغذامي يكتب: أنفاس الآخرين
28 أغسطس 2021 01:23

في تعبير ثري الدلالة، قال رولان لارت: إن الكلمات ملوثة بأنفاس الآخرين، وهذه حال ثقافية تقيّد حرية التفكير الفردي، وتحول التفكر إلى معنى عمومي، وإن كانت نشأته ذاتية، على أن حرية التفكير حرية مطلقة، ولكن ما إن يتحول التفكير إلى التعبير، فإنه يقع في القيود، وأولها قيود اللغة، بما أن اللغة موروث جماعي تشكلت بقوانينها النحوية والدلالية ومجازاتها الكبرى قبل أن يولد الفرد الذي سيرث اللغة من مجتمعه الذي ولد فيه، أي أنه يرث التعبير وفي الحقيقة، فإنه سيرث التفكير أيضاً، لأن اللغة هي الفكر، وكل ما نهجس به يتحوّل إلى كلمات قد ورثناها متلبسة بأنفاس الآخرين وأنفاس تاريخ استخداماتها وصيغه، وأي مفردة ستبدو في المعجم الرسمي ذات معانٍ تتعدد حسب ما مر عليها من سياقات، وإن كانت المعاني غير محصورة فإن الألفاظ محصورة حسب تعبير ابن سينا «المعاني غير محصورة والألفاظ محصورة، ولذا لزم أن يدل اللفظ الواحد على أكثر من معنى»، على أن محصورية الألفاظ ستحاصر المعاني تبعاً وضرورةً، ومن ثم تضيق عليها بموروثها المعجمي، وإن كانت ميزة المبدع هي في تمرده على مجازات السابقين، لكنه سيظل محدود الحيز في تمرده وسيتصادم مع شروط الاستقبال والتلقي التي تحتّم عليه أن يقول ما يفهمه الآخرون لكي يصل إليهم، وما بين القيد والانطلاق تقع الحرية في مأزق لغوي سيؤثر عليه شرط الفهم من المتلقي وشرط الإفهام من المنشيء، ويتلو ذلك قيود أخرى يحتمها الوضع الاجتماعي لمنشئ اللغة وجنس الخطاب نفسه بين خطاب فلسفي أو خطاب علمي أو خطاب إبداعي، وكل خطاب له مصطلحاته ومجازاته الخاصة بالخطاب المحدد، تماماً كما يقع الخطاب العام بشروط قانونية تشبه الشروط النحوية في ضبطها لصيغ القول والنطق بما يتفق مع حال التواصل بين أطراف الخطاب، وأي لحنٍ هنا سيكون له جريرة قانونية أو أخلاقية حسب أنظمة المجتمع اللغوي الذي يتعامل مع الخطاب بوصف ذلك لحناً ثقافياً يخترق قواعد الاستخدام وشروطه. وتبعاً لهذا، فإن حرية التفكير مطلقة أو تبدو مطلقةً، ولكنها تتقيد بمجرد أن تتحوّل للتعبير، حيث الكلمات المتلبسة بأنفاس الآخرين، وسيشترك الآخرون في تحويل الحرية لمعنى توافقي ترسمه شروط المصالحة بين الذات والذوات الآخر.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©