يا لهذا الدماغ البشري العجيب الذي يختزن مسيرة حياتنا في خزائن ذاكرتنا منذ الطفولة والصبا والشباب والشيخوخة حتى الفناء. وحين ترج بنا حواضر الحياة اليومية وأخبارها في حمم الغضب والحزن والعجز والأسى، تستيقظ الذاكرة ويدفق العقل بمخزونه من الذكريات الجميلة لمواساتنا ومسح الحزن والأسى الذي طوحنا في شتات الحيرة. وهكذا كلما سمعت وشاهدت وقرأت أخبار لبنان، الذي ارتجت به عواصف الدمار التي تعصى على التفسير والأسباب والغايات. لبنان الذي كان لي منبعاً ونهراً سخياً تدفق في مجرى ثقافتي منذ الصبا حين كنت أقرأ أروع الكتب التي كانت تصدر من لبنان في زمن كان فيه لبنان حضارة لم تماثلها حضارة في دولة عربية أخرى. أواه يا لبنان كم أشتاق إلى رحابك الجميلة كما كنت أسافر إليك كل عام صيفاً وربيعاً، وارتخي في رونق جمالك ورحاب أحبتي من الأصدقاء والخلان.
واليوم استيقظ حنيني إليك رغم حزني وأساي على واقعك الراهن، واستيقظت ذاكرتي لتعيد لي تاريخ ذلك اليوم الذي كنت فيه مع أختي وابنتها على شاطئ «جونية»، البحر كان يلفه غموض لا نهائي. ضباب ومساء يوشك. في البعيد تنتصب السحب كأنها جبال تطبع خطاً فاصلاً بين الماء والسماء، حيث الشمس تذهب وئيدا إلى مرقدها تاركة ذيولاً من لهيبها تضيئ الفراغات بين قطع الغيوم المتناثرة، التي تلوح في الأفق البعيد، كأنها تفترش البحر وليست معلقة بين الأفق وخط الماء. القلم ينقطع فيثير غضبي وأنا أود أن أكون هادئة، غارقة في تأمل اللحظات الصعبة التي تمر بها البشرية، واللحظات المبهمة التي تمر بها حياتي. وئيدا تسكب الغيوم سوادها، كأن رماد الحرائق يتصاعد إلى السماء مكوناً اضطراباً سديمياً.
كأن البحر سادر في لامبالاته الأبدية ونشيجه الذي لا يهدأ. هل يهدأ البحر؟ أواه، لو أن هذه الموسيقى الساقطة تكف عن جلد أسماعنا، كنت قرأت طلسم البحر. أختي وابنتها تتجهان إلى محيطهما، يخوضان في لجة الشراء، كأنما الحياة برمتها بضاعة تتوزعها الدكاكين. كأن العمر الجميل نقوداً للمقايضة! للأمواج وجهان: بريق الفضة وغيمة المجهول. أي إيقاع رقيق يرتل البحر. اللعنة على هذه الأغنية الساقطة. لماذا أجلس حيث لا أحد ينصت، حين يثرثر البعض، والبعض يستمع. بيني وبين البحر وشيجة. بيني وبين البحر اكتناه البحر للبحر. بيني وبين البحر رحيل يستحيل. بيني وبين البحر لقاء يتشظى. كأنما البحر يأس مفعم بضجة الأمل.ها أن الظلام يجلل البحر، والبحر يرشني بالملح والزبد. الملح لي، والزبد قبض الرياح الهوج، ونثارها على شواطئ النسيان!