قد لا يدرك الكثيرون من الجيل الجديد اليوم معنى أن تترك مدينتك التي ولدت فيها، وتعرف أماكنها كراحة كف يدك، لتسافر لمدينة جديدة تحاول أن تخلق خريطتها في الرأس من أجل العلم لعدم توفره في مدينتك أو من أجل تعليم أكبر لم يكن متوافراً ذاك الحين فيها، وقد لا يدرك معنى البُعد بين العين وأبوظبي بقياس زمن اليوم، وسهولة الوصول والمواصلات، لكن الكثيرين من جيل الستينيات وقبلها عاشوا طفولة ممزقة، تتنازعها أكثر من مدينة، فبعضنا درس الابتدائية في مدينة، والإعدادية في مدينة أخرى، والثانوية في أخرى، والجامعة في بلد بعيد، وبحر بعيد، ومدينة خارجة من الحكايات، وأحلام قصص المساء.
كانت غربة الدراسة داخل الإمارات حاضرة، فالكثير من أصدقاء الدراسة الأولى، تقاسمتنا مدينة العين في الصفوف الأولى حيث الطفولة، وتعلم الحبو، وحروف الهجاء، وحيث ملاعب الصبا، وبيوت تعرفك، وكأنك ابنها، ومدينة أبوظبي حيث التفتيش فيها عن أماكن ستحبها، وعن أصدقاء ستعرفهم، وعن حياة تريد أن تعوضك حياة الفقد التي تركتها هناك في العين، في البداية غدت أبوظبي أشبه بمدرسة داخلية، لا أرى الأشياء إلا من خلال ما تسمح به أسوار تلك المدرسة الداخلية أو من خلال عين أبي الذي كان يصحبني معه لزيارة بيوتاتها وأماكنها والتعرف على بعض وجوهها أو من خلال رحلات مدرسية، وساعات معدودة لا تستطيع أن تقسمها بين اللعب، والتعرف على أبجديات المكان في مدينة في بداية تشكلها، لقد ضمت مدرستنا الداخلية، مدرسة الثقافة للأولاد في معسكر آل نهيان بأبوظبي، طلبة من عُمان والإمارات أتوا من مدن مختلفة: العين وبدع زايد وغياثي، ومحضة وحفيت وشناص ومسقط والشارقة وعجمان والمنامة ورأس الخيمة، كان هؤلاء الصغار تتقاسمهم مدينتان، مدينة يحنّون لها طوال الأسبوع، يستقرون فيها يومين لتعيد توازنهم، وترتب دواخلهم، ومدينة كنا نكبر فيها ومعها، وتُعلّمنا بقدر أعمارنا، لكن هذه المدينة وبعد انتهاء المراحل الدراسية، ستصبح هي المدينة التي نعرفها، ونطمئن بالسكن فيها، ونحمل لها الحنين حينما تغربنا الأيام.
اليوم.. تُفرح قلبي أبوظبي، ما إن أصل إليها براً أو بحراً أو جواً، ناسياً أول يوم من البكاء قبل 45 عاماً حينما أجبرني أبي على الذهاب إليها، والعيش معه فيها، والدراسة في مدارسها، لقد ظل ذاك اليوم، وربما كان يوم جمعة في أواخر شهر ديسمبر من عام 1969 عالقاً في الرأس، وكان الطريق إليها صعباً ووعراً وطويلاً من البكاء والنشيج والشعور باليتم!