عرفت عنه، ثم تعرفت عليه، ثم عرفته.. على مدى سنوات طوال. فحين التحقت بالجامعة الأميركية في بيروت عام 1961 بدأت أتعرف، وباعتزاز، ومعي العديد من الطلبة، على ذلك العالم «ابن حيفا»، الأستاذ في دائرة الفيزياء ثم رئيسها في تلك الجامعة العتيدة. ومع أنني تمنيت لو كانت دراستي لمادة الفيزياء في تلك الدائرة على يديه، فإن الحظ لم يحالفني،

وإن كان الحظ ذاته قد ساقني إلى الأستاذة القديرة والصارمة الدكتورة سلوى نصّار، لكن سرعان ما تعرفت على أستاذنا الدكتور أنطوان نفسه في أكثر من لقاء مع الأستاذين الأسطوريين برهان الدجاني، رحمه الله، ووليد الخالدي، أطال الله في عمره، وكان إعجابهما الشديد، الشخصي والعلمي، بالدكتور أنطوان النبع الذي استقينا منه المزيد من الإعجاب بالدكتور «الحيفاوي» زحلان. وفي بيروت، ومروراً بعمّان، ومدن أخرى، توطدت المعرفة بالدكتور أنطوان من خلال عطائه في «الجمعية العلمية الملكية» وفي «مؤسسة عبدالحميد شومان» التي كنت أرأسها، ثم في «مركز دراسات الوحدة العربية» الذي تشرفت، إلى جانب أنطوان، بعضوية مجلس أمنائه. ولا أنسى اللقاءات الأثيرة بوجوده، مع شخصين أسطوريين آخرين هما حسيب الصباغ وسعيد خوري.

مع أولئك جميعاً، وغيرهم، أسس وأدار الدكتور زحلان العديد من المؤسسات التي كان هدفها ردم الهوة العلمية بين الأمة العربية والعالم المتقدم. فالمرارة الشديدة التي بدأت تستوطن حلق ذلك العالم الحيفاوي كانت بدايتها مع هزيمة عام 1967 التي كشفت عن تخلف مريع لدى العرب، الأمر الذي تجلى أيضاً في عام 1973. وفي الحالتين، تخلى أنطوان عن عمله الأكاديمي ساعياً، عبر مؤسسات أقامها بالاتفاق مع العاهل الأردني الملك حسين (عام 1967)، ومع الصباغ وخوري (عام 1973) وراء ردم تلك الهوة العلمية. غير أن الظروف القاهرة التي أحاطت بظروف المحاولتين الكبيرتين حالت من دون نيله مبتغاه.

ومع تراكم أحاسيس المرارة الشديدة في حلقه، سعى عبر محاولات عديدة أخرى- لتحقيق ذلك الهدف. لكن زحلان، رغم امتداد سنوات عمره حتى وصلت به ال92 عند رحيله في سبتمبر عام 2020، لم يملأ يديه بمكونات هدفه المنشود. ومع ذلك، يكفي الدكتور أنطوان فخراً أنه - بما تركه من تراث مكتوب- أصبح أحد أبرز العلماء العرب في مجال العلوم التطبيقية، والربط الهادف ما بين العلوم والمجتمع، ومجمل عملية التقدم، مقروناً بمسيرته التي جعلت منه أنموذجاً في مجالات المسؤولية الاجتماعية للعلماء، وتوطين الدراسات المستقبلية التي تجمع بين العلم والتقانة. وما كان لذلك كله أن يتحقق إلا بفضل الالتزام القومي للدكتور زحلان على درب التأسيس لنهضة عربية قوامها العلم والتقانة والثقافة والمواطنة.

وإن كانت مرارة رؤيته لواقعنا الناجم عن عدم النجاح في ردم الهوة العلمية بين الأمة العربية وأمم العالم المتقدم، فإن إنجازات الدكتور زحلان -الأنموذج والباحث المتميز- خففت من أحاسيس تلك المرارة، تماماً مثلما خففتها «الحلاوة» المتأتية من سعادته الزوجية، ومن محبة عائلته وبالذات ابنته الوحيدة أمل، وكذلك محبة ووفاء أصدقائه وطلابه. *كاتب وباحث سياسي