كنا أمام عجيبةِ مِن عجائبَ الدهرِ، ما جرى بأفغانستان. لكن في السياسة لا توجد عجائب وغرائب، لهذا كم يكون الفصل بين ثوابت الدين ومتحولات السياسة مطلباً ملحاً، أن يغزو الأميركان أفغانستان ويسقطوا إمارة «طالبان»، وتتوزع الحركة بين الجبال والوديان، لعشرين عاماً، ثم تعود وتدخل القصر الرئاسيّ، وتستلمه رسمياً مِن مرافق الرئيس الذي تركه، كي لا يلقى مصير الرئيس الأسبق نجيب الله(قُتل: 1996). ولأبي تمام(ت:231 هجريَّة): «عَلى أَنَّها الأَيّامُ قَد صِرنَ كُلَّها/ عَجائِبَ حَتّى لَيسَ فيها عَجائِبُ»(المُبرد، الكامل في اللُّغة والأدب).

عادت طالبان بخطاب آخر، مع أن العمامة السوداء نفسها، مستفيدة مِن تجربتها السابقة، أخذت تُهدئ روع الأفغانيين من تجربتها معهم خلال الخمس سنوات التي حكمتها(1996-2001)، وتُطَمئن الجوار والعالم، غير داعمةٍ للإرهاب، وستتعامل حضارياً مع رعاياها، وتنفتح على كل القوى السياسية، لم تعد تحرم المرأة مِن التعليم، ولا تشترط خروجها مِن المنزل بمحرم، وليست ضد الفنون والثقافة(عن تاريخ طالبان ومحرماتها يُنظر: الهادي الخناشي، العاصفة والعِمامة). إذا صدقت «طالبان» في انقلابها الداخلي هذا، فنكون أمام تجربة نادرة في التاريخ، غير أنَّ الشريعة التي اشترطت تطبيقها، في هذا الانفتاح، ذات ثوبٍ فضفاض!

نجد في تاريخ الحركات الدينية المتطرفة ما يفيد مثالاً، وهو التغيير الذي حصل للحركة «النزارية»، نسبة إلى نزار بن المستنصر بالله الفاطمي، وقد تجاوزه أخوه الأصغر المستعلي ليكون وريثاً لوالده المستنصر(ت: 487هجرية)، ومِن ذلك التاريخ تشكلت «النزارية»، بقيادة الداعي الإسماعيلي ببلاد فارس حسن الصباح(ت: 518هجرية)، كان أسلوبها الاغتيال، ومنذ دخول قلعة «آلموت»(483 هجريَّة)، وحتى سقوطها(654 هجريَّة) بيد المغول، نشأ مجتمع نزاري عقائدي، يحتقر الحياة مِن أجل «شيخ الجبل». طالت خناجرها المسمومة الفاطميين بمصر والعباسيين والسلاجقة بفارس والعِراق، وأوروبيين.

عُرفت النزارية بفرقة الحشاشين، حسب التسمية الأوروبية، والأصح أنها «الحشيشيَّة»، كتب معاصرهم ابن دعثم (ت: 615هجرية): «الحشّيشية، وهم قوم في تلك الديار، يرمون نفوسهم على الملوك فيقتلونهم، ويُقتّلون، ويرون ذلك ديناً»(السَّيرة الشَّريفة المنصورية).

فالنسبة إلى الحشائش، التي تُصنع منها الأدويَّة في قلاعهم، وليست الحشيش المخدر، خصوصاً أنّ أحد كبارهم في قلعة «آلموت» أحمد بن عطاش(قتل: 500 هجريَّة) كان طبيباً. بعد نحو مئتي سنة مِن العقيدة الدموية، تبنت النزارية السِّلم، بدأت طلائع التغيير قبل سقوط قلعتهم الرئيسية «آلموت» بعقود، يحددها معاصرهم ابن الأثير(ت: 630ه) بسنة (608 هجريَّة)، فحينها بعثوا رسلاً إلى الخليفة العباسي وبقية «ملوك الإسلام»، وأخذوا يذهبون إلى الحجَّ(الكامل في التَّاريخ)، مِن دون خناجر وهتافات ثورية. بدأ عنوانهم يتغير لدى خصومهم، فكانوا يدعون بـ«الملاحدة»(رحلة بنيامين)، و«الفداويَّة»(الفدائيين).

ظهر منهم الآغاخانيَّة، المعروفة باهتمامها الثقافي، وجائزتها للعمارة الإسلامية، تساهم بالنهضة الثقافيّة بالهند والعالم الإسلاميّ(معهد الدراسات الإسماعيلية، تاريخ الإسماعيليين الحديث الاستمرارية والتغيير لجماعة مسلمة). ربما تتبنى «طالبان» التجربة النزارية، بعد التخلي عن ارتباطاتها بالإسلام السياسي، وتتفهم أنه لا يعني الانفتاح شيئاً مع تطبيق الشريعة، فالإسلاميون أخذوا يشرئبون، على أنه انتصارهم كافة، دون التضحية بالعقيدة السياسية، مثلما كان الحال مع «النزارية».

لأبي تمام أيضاً، ألا يكون الأملَ كاذباً، بعد أربعين سنة مِن الحروب(1980-2021): «هُوَ الدَهرُ لا يُشوي وَهُنَّ المَصائِبُ/ وَأَكثَرُ آمالِ الرِّجالِ كَواذِبُ»!

* كاتب عراقي