شكّل الانسحاب الأميركي من أفغانستان وعودة حركة «طالبان» إلى مواقعها في العاصمة كابول هزة عنيفة لكثيرين. مسألة انسحاب القوات الأميركية وإخلاء الساحة أمام طالبان للعودة إلى المدن تباعاً واستعادة الحركة نفوذها كاملاً على كامل الأراضي الأفغانية بعد عقدين فقط من حرب ضروس تجاوزت فيها حصيلة الخسائر البشرية حاجز الـ 350 ألف ضحية، وما يقرب من تريليون دولار كانت قد أُنفقت دون حدوث التغيير المنشود في الواقع الأفغاني الداخلي، سياسياً واقتصادياً وأيديولوجياً.

الانسحاب الذي نقلته التلفزة العالمية أثار - وما يزال - الاستفهام في كل ظروفه وملابساته، لكنه في جانب مهم من جوانبه كشف عن نوايا واشنطن التي تعمل على رسم سيناريوهات جديدة للمنطقة التي قد تصيبها بحالة من الإرباك تقودها إلى التورط بالمستنقع الأفغاني، وهو ما يؤدي في نهاية الأمر إلى عرقلة خطوات بعض عواصم المنطقة اقتصادياً وعسكرياً وتكنولوجياً.

بطريقةٍ مفاجئة - بدت للعالم وكأنها ارتجالية ومتخبطة - انسحبت معظم القوات الأميركية من أفغانستان تاركة الجميع في حالة من الذهول، لكنها في الوقت ذاته قد تزرع بذور الفتنة التي يمكن أن تنمو وتكبر إلى أن تشعل المنطقة إنْ لم يتم التعامل معها بكثير من الحذر.

المشهد العبثي في مطار كابول لخص بقسوة انهيار الأحلام التي روجت لها واشنطن في بداية غزوها لأفغانستان عام 2001، المشهد الذي اعتبره الرئيس الألماني فرانك فالتر شتاينماير عار على الغرب كله. ليست هذه هي المرة الأولى التي تجتاح فيها طالبان الولايات الأفغانية، ففي عام 1994 وبعد فشل أمراء الحرب في التوافق على تشكيل حكومة ممثلة للأفغان، وصلت طالبان إلى السلطة لكنها لم تنجح بتحسين معيشة الشعب بل زادتها سوءاً فدخلت أفغانستان بأزمة اقتصادية.

في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر قررت أميركا تدمير الحركة، فوجه بوش الابن ضربة قوية ضدها، ونجحت الإدارة الأميركية في طرد طالبان من الحكم، وملاحقة قادتهم في جبال تورا بورا عقوداً، وسجن الكثير من عناصرهم ومن أتباعهم في غوانتانامو، لكن اليوم ذات الحركة تعود بموافقة الإدارة الأميركية وكأن شيئاً لم يكن. لن تخلو أفغانستان من اللاعبين الدوليين المؤثرين الذين يبحثون عن دور سياسي واقتصادي لهم فيها، وهي التي تتمتع بثروات لم تُستثمر بعد.

فموسكو مثلاً قريبة جداً منها ولها فيها مآرب، وبكين لها مصلحة بإقامة علاقات جيدة معها لكونها إحدى المحطات الرئيسة في مشروع طريق الحرير الجديد.

في المقابل لا ينبغي لدول الخليج أن تكون بعيدة عن الأحداث، ومن حقها كما من حق البعض في العالم أن يقلق من عودة طالبان تلك، وخصوصاً إنْ عادت الحركة إلى سياستها القديمة على الرغم من الوعود التي قطعتها للمجتمع الدولي. وإنْ ظلت طالبان تعمل وفق آلية تفكيرها التي كانت تعمل بها قبل عقود، وإن لم تتطور مع تطور العالم فإنها ستحكم على نفسها بالعزلة مرة أخرى، وستزيد الأمر سوءاً إن لم تقبل أن تكون جزءاً من عالم متعدد ومتنوع يقوم على المدنية والحداثة والاستنارة والتعايش وقبول الاختلاف والمصالح المتبادلة.

دعونا لا نستبق الأحداث، ولا يشغلنا ما نراه على الشاشات ولا ما نسمعه من تصريحات ولا ما نقرأه من أنباء. كل ذلك قد لا يحمل توصيفاً دقيقاً لما يحدث، كما أنه قد لا يتضمن تحليلات صائبة لمضمون الخطاب الطالباني الجديد. كل ما علينا فعله اليوم التركيز جيداً على ما يقوم به قادة الحركة من أفعال وما ينفذوه من سياسات على أرض الواقع.