«الان مينك» كاتب فرنسي مشهور، له عشرات الكتب المنشورة في كل فروع المعرفة من الفلسفة إلى الاقتصاد والتاريخ والعلوم الاستراتيجية. صدر بحق «مينك» حكمان قضائيان بتهمة اختلاس فقرات كاملة من كتب لم يحل إليها في أعماله المنشورة. ومن هذه الاقتباسات المسروقة 36 اقتباساً من كتاب «باتريك رودل» حول سيرة سبينوزا أوردها في كتابه «سبينوزا.. رواية يهودية»، والمثير في الأمر أن كتاب رودل مستوحى من الخيال، في حين أن مينك أورد بعض المعطيات المختلسة وكأنها حقائق تاريخية.
أما الكتاب الثاني فهو العمل الذي نشر مينك عن سيرة «رني بوسكيه»، وقد اختلس فيه فقرات كاملة من كتاب الباحثة باسكال فرومنت حول أمين عام البوليس الفرنسي في عهد الاحتلال النازي. وعندما طرحت صحيفة «لموند» الموضوع مؤخراً على مينك تعلل بخطأ مساعديه الموثِّقين الذين هم المسؤولون عن هذه الأخطاء، مجادلاً في الوقت نفسه بأن المعلومات مشتركة بين الناس ولا يحق لأحد احتكارها باسم حقوق الملكية الفكرية.
ليس مينك حالة فريدة، فقبل سنوات وقع الفيلسوف ذائع الصيت برنارد هنري ليفي في خطأ خطير، عندما عزا في كتابه «الحرب في الفلسفة» لمؤلف وهمي اسمه «جان بابتست بوتول» كتب كتاباً بعنوان «الحياة الجنسية لكانط»، والكتاب في حقيقته مجرد نص هزلي من إنشاء صحفي ساخر من جريدة «لوكنار انشانيه» الهزلية.
وموضوع السرقات ليس غريباً على الكتابات العربية، فقد ألّف فيها الأقدمون من ابن سلام الجمحي والجاحظ والقاضي الجرجاني إلى حازم القرطاجني، وأطلقوا عليها ألفاظاً عديدة مثل السلخ والاجتلاب والإغارة. ولم يسلم شاعر كبير من الاتهام بالسرقة، من أبي نواس إلى أبي تمام والمتنبي، وقد اشتهر في هذا الباب كتاب «الإبانة عن سرقات المتنبي»، لمؤلفه «العميدي»، وإن لم يسلمه كثير من معاصريه.
وفي العصر الراهن اتهم مؤلفون مشهورون بالاقتباس غير المشروع، وعُرف في هذا السياق كتاب «أدونيس منتحِلاً» للناقد والمترجم العراقي «كاظم جهاد»، وقد اعتبر فيه أن الشاعر السوري المشهور أدونيس أغار على نصوص كثيرة للنفري الصوفي صاحب كتاب «المواقف» في ديوانه الشعري «تحولات عاشق».
ليس هذا سوى الجانب الظاهر من السرقات، وهو يختلف عن أنواع أخرى من الاختلاس خفية، من بينها الاقتباس عن طريق الترجمة وإعادة صياغة الأفكار والمعاني بأسلوب شخصي يخفي المصدر الأصلي، ومن أخطرها تقنية النسخ واللصق الإلكترونية التي انتشرت بعد ظهور الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي.
ويتعين هنا التفريق بين ظاهرة الاقتباس غير المشروع الذي يدخل في باب التجاوزات التي يطالها القانون، وظاهرة التناص أو تداخل النصوص التي اهتمت بها الدراسات الفلسفية والنقدية المعاصرة.
ويتعلق الأمر هنا برفض أطروحة الإبداع التقليدية التي تدعي أن الكاتب أو الأديب بمقدوره اختراع معان وألفاظ مبتكرة وغير مسبوقة، في حين أن النصوص «نادرة» كما يقول ميشال فوكو، بمعنى أن الإنتاج الثقافي في مجمله ليس سوى استنساخ لنص رئيسي واحد بطرق متعددة شتى. فلكل عصر نظامه المعرفي وقواعد تشكله الخطابي التي تحدد منظور الحقيقة والمعنى، والمؤلف من هذا المنظور ليس سوى وهْم كبير ما دام كل منتَج ثقافي هو خليط من نصوص متداخلة يشارك في إنتاجها مؤلفون كثر، هم نفسهم من آثار أفقهم النظري وسياقهم الفكري. عُرفت هذه النظرية بـ«موت المؤلف»، وكثر الحديث حولها، وأثارت جدلاً واسعاً عندما حاول بعض النقاد ومؤرخي الفكر تطبيقها على التراث العربي الإسلامي.

ومن الإشكالات التي طرحتها هذه النظرية ما يتعلق بأطروحة الاجتهاد الأصولية التي أنيط بها تجديد الدين، بين من يضيّقها في حدود الأنساق المذهبية السائدة، ومَن يوسّعها مقترحاً وضع مدونة تأويلية وأصولية جديدة تتلاءم مع وضع المجتمعات المسلمة المعاصرة. ومع أن العديد من نقاد التراث من الحداثيين ودعاة التجديد من منتسبي الإسلام السياسي، لا يرون في آليات التأويل التراثي، من شروح وتلخيصات واختصارات، سوى استنساخ سلبي عقيم لنص جامد، إلا أن ما علمتنا نظرية التناص نفسها هو أن القراءة الاستنساخية للنص مستحيلة، فكل قراءة مهما تحرَّت الالتزام الحرفي بالأصل تعيد إنتاج المعنى وترتيب نظام النص.
إذا كان من الضروري وضع قيود وعقوبات مشددة على ظواهر السرقات الفكرية والعلمية والأدبية التي تزايدت كثيراً في السنوات الأخيرة في عالمنا العربي، وألقت ظلالاً من الشك على الشهادات الجامعية والمؤلفات الإبداعية، فإنه من الضروري إعادة بناء مناهجنا التأويلية في اتجاه يستوعب تجارب القراءة ومسارات الفهم والتفسير المتغيرة والمتنوعة التي تبين وهم «الانغلاق الدوغمائي» في الثقافة العربية، والذي كان يشكو منه محمد أركون، كما تبين وهم التماهي الحرفي مع نص «نزل ولا يزال يتنزل» كما كان يقول الإمام زروق. 

أكاديمي موريتاني