«إن التاريخ هو ذاكرة الأمم، أو معمل كبير لتجارب البشرية، يحفل بمعادلات النجاح لمن يحسن صياغتها».. هذه الجملة البديعة صاغها الدبلوماسي الأميركي الأشهر هنري كيسنجر بينما كانت الولايات المتحدة تخوض الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفييتي، وقبل أن يسقط جدار برلين وتتهاوى المنظومة الاشتراكية حول العالم، غير أن الولايات المتحدة لم تلتفت لهذه الجملة، أو هي لا تريد ذلك على رغم إن عقيدة الرئيس جيمي كارتر كانت متشددة حيال حلفاء واشنطن حتى اهتز الكبرياء الأميركي في صباح الحادي عشر من سبتمبر 2001 بهجمات تنظيم «القاعدة»، فذهبت القوة الأميركية لتنتقم وتقدم الديمقراطية لشعوب لم تطلب الديمقراطية أصلاً.

تشكلت عقيدة أوباما من تبعات الشعور الأميركي السلبي تجاه التجربة الفيتنامية كمصدر موجع يرفض مغادرة الذاكرة الأميركية، وعامل ضاغط في كافة المؤسسات السياسية والاقتصادية والعسكرية بأن الجيش الأميركي سقط في مستنقع فيتنام، وأن تلك التجربة لا يجب تكرارها، وفيما كانت تتضخم العقدة الفيتنامية في الداخل الأميركي، كان هناك مستثمرون قادرون على تضخيم العقدة في الذات الأميركية عبر كل الوسائل الممكنة، بما فيها الإسقاطات الظرفية لحوادث ومشاهد من الطبيعي حدوثها في سياق التصادم السياسي والتسابق الاقتصادي العالمي.

شكلت عقيدة باراك أوباما نسجاً مما تبقى من الحلم الأميركي الطاغي بروح الليبرالية والمرتكز على الثوابت الرأسمالية المحركة لمداميك الاقتصاد ثم السياسة، الديمقراطية بالمفهوم الأميركي محمية ومصانه بأسوار عالية من الدولارات التي توفر الملاذ والحماية للشعب الأميركي، فلا يمكن للديمقراطية أن تعيش مع بطون خاوية، كل هذه الكتل الضخمة من الأفكار صنعت من باراك أوباما ذاته وعقيدته وفكرته التي برر بها وصوله إلى البيت الأبيض، وهو الذي جاء من خارج كل التقاليد الأميركية الكلاسيكية.

حالمٌ هو أوباما ذلك ما يمكن دائماً الإشارة إليه. غير أنه وقع وأوقع كثيراً من الشعوب من حيث لا يعلم في ورطة «الإسلام السياسي» المتحالف مع اليساريين. وتلك الأيديولوجيات الخاسرة في مضامير السياسة والفكر والاقتصاد هي كذلك تشعر بذلك الشعور الكبير جداً من الخيبة الضخمة.

فلم تنجح تجربة اليسار سياسياً، ولم تفلح في ترجمة شعاراتها التي مزقتها الشعوب، وهي تزحف إلى القسم الشرقي من برلين، لتضرب بمطارقها مسقطة جدار برلين لتطوي مرحلة من التاريخ، وتترك لليبراليين الغربيين كتابة الفصول الجديدة. في أولمبياد برشلونة 1992 سحر الفريق الأميركي لكرة السلة أهل الأرض، حتى أن «لاري كينغ» انتهز افتتاحية برنامجه ليشبه خلالها أداء لاعبي الفريق الأميركي بأنهم يبرهنون على السطوة الأميركية، وأن أحادية القطب تستدعي هكذا حفاوة، وأن على العالم استلهام النموذج السياسي الذي نجح واكتسح العواصم الشرقية، كانت النشوة طاغية دون شك، لكن في الحياة لاعبين آخرين بعضهم كانوا للتو، يخسرون مباراتهم، بينما آخرون خسروا منذ سنوات بعيدة. الأميركيون اختتموا القرن العشرين بالسيادة المطلقة على العالم، واستيقظوا في بداية الألفية الثانية بهجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001. وهنا حدث اضطراب الوجدان الأميركي واهتز العقل وأصيب الكبرياء إصابة بليغة.

مشهد سيرالي يعود للقرون البعيدة. شيخ على صهوة خيل يرمي بسهم، وقائد فرنجي يقود حملة صليبية. كل الحلم الأميركي وأحادية القطب وغزو الفضاء تحول إلى انكفاء اللحظة الانفعالية التي لم تخضع لحظتها للعقل، فلقد كان الغضب والثأر لغة أسقطت كابول وبغداد، وبعثت المتعصبين من تحت أكوام رماد التاريخ، ليشكلوا نسجاً من أفكار صنعت مخالب «داعش» و«تنظيم القاعدة» و«حزب الله»، وكل فصائل متصلبة تحمل لواء الدين البراء من كل هذا الجنون. فهل آن لباراك أوباما أن يراجع عقيدته أو سيتركها تأكل أميركا بعقدة الهزيمة في هانوي ثم كابول ثم قد تكون بغداد.

* كاتب يمني