فرِح العالم حين أدلى الرئيس الأميركي بوش الأب، في تسعينيات القرن الماضي، بتصريحه الذي قال فيه إن العالم سوف يصبح نظيفاً، ويتخلى عن أسلحة الدمار الشامل، وإن البشرية ستقلع كل الأنياب التي تهدد حياتها. فرح العالم بهذا التصريح السار والإنساني في وقته، وكتب كتاب كثيرون أن العالم سوف يعيش بأمان واطمئنان، وسيخلوا أخيراً من أسلحة الدمار الشامل، الذرية والجرثومية، وأنه ما عادت دولة كبرى تهدد دولةً صغرى.. معتقدين بذلك أن العالم بدأ يتأهب للعيش في سلام شامل ودائم، حيث سيأكل الناس ويشربون، ويزرعون ويتعلمون وينمّون ويزدهرون، وينهضون كما يشاؤون!

لكن الجميع فوجئوا بعالم مسعور بلا حدود؛ عالم يقتل ويهدد ويتوعد، يغزو دولاً مطمئنة وأنظمة سائدة وشعوباً كانت مرتاحة آمنة في بلدانها.. ونتيجة ذلك نجد اليوم مجتمعات تشردت وفقدت المأوى، تموت من الجوع والمرض، وتغرق في الشواطئ من دون ملاذ ولا معين.. بسبب قرارات «العالم الجديد» الذي كشّر عن أنيابه بلا رحمة، لتختلط الأوراق وتتصادم الخيارات ببعضها بعضاً، وتتصاعد الكراهية وتتأجج الطائفية، وتجد الميليشيات المسلحة طريقها للظهور كي تحكم وتقتل وتدمّر على مرمى ومسمع من دول كبرى أرادت فرض الإنسانية والديمقراطية بقوة السلاح وجلبهما إلى بعض البلدان على ظهور الدبابات، لكن لتغادرها بعد حين تاركةً الشعب في حالة صراع وتناحر وتقاتل.

ولم يكن ذلك الواقع إلا نتاجاً للفكر والأسلوب والنظرية التي حكمت سلوك صانع القرار الدولي، حين أعطى للقوة العسكرية المسلحة دور الكلمة الفصل في مصير البلدان والمجتمعات، وهو ما نتجت عنه ويلات لدول وأنظمة كانت قائمة، وكان بعضها يتمتع بمستويات معيشية وتنموية عالية! فمثلاً حينما غزت أميركا العراق قالت إنها ذاهبة لنشر الديمقراطية والسلام والأمان، فألغت مؤسسات البلاد، وحلت الجيش العراقي، وسرّحت المؤسسة الأمنية القوية، لتحل بدلاً منهما ميليشيات طائفية حزبية مسلحة موالية لإيران، وليس للعراق الذي كان يوصف بالدولة العربية القوية التي حافظت على الأمن القومي العربي.

وكما غادرت أميركا أفغانستان، فهي تريد أيضاً مغادرة العراق الآن وسط ما يعانيه من توترات وانقطاعات لخدمات الماء والكهرباء.. وكل ذلك بسبب «الديمقراطية» التي تم فرضها بالقوة العسكرية!وهكذا الحال الآن في بلدان، مثل أفغانستان والعراق وسوريا ولبنان واليمن، حينما تطالب بعض النخب بديمقراطية أجنبية زائفة، وتوهم مجتمعاتها بأن الغرب هو مَن سيجلب لها الأمن والأمان والخير، وأن الديمقراطية المستوردة ستحقق للشعب أمنه وأمانيه! لكن أي شعب أو مكوّن مجتمعي يرضى بحكم الغير لوطنه تحت دعاوى مثل الديمقراطية، سوف يعيش في ظل الفشل، ولن يحقق ديمقراطية ولا رفاهاً اقتصادياً ولا حتى أمناً. السياسة الأميركية لم تستطع تحقيق خططها لفرض الأمن والاستقرار في الدول التي دخلت إليها بقواتها العسكرية، وذلك بدءاً من حرب فيتنام بين عامي 1955 و1975، مروراً بعمليتها العسكرية المسماة «خليج الخنازير» في كوبا عام 1961 للإطاحة بالزعيم الكوبي فيدل كاسترو، وصولاً إلى تجربتيها المشهودتين في كل من أفغانستان والعراق. ورغم ذلك ما زالت بعض النخب العربية تطارد السراب وخيوط الدخان، وهي تتطلع إلى الديمقراطية على أيدي الجيوش الغربية، متناسيةً أن التغيير الحقيقي هو ما يبدأ من الداخل، ومن الذات وعبر التصالح بين النخب ومجتمعاتها أولاً، وعدم السماح للأطماع الأجنبية بالتدخل بين الشعوب وحكوماتها ثانياً، وإلاّ فسوف تكون الفوضى والاضطراب والنزاع بدائل وحيدة متاحة. الفتنة نائمة لعن الله مَن أيقظها.

*كاتب سعودي