في تطورات متسارعة، الكثير منها مدهش، والعديد منها مُحيّر، ومعظمها مستغرب، سقطت أفغانستان بكاملها في يد مقاتلي حركة «طالبان» الذين دخلوا العاصمة كابول دون مقاومة تذكر من قبل الجيش الأفغاني، وغادر عدد من المسؤولين الكبار المهمين البلاد بعجل، تاركين وراءهم البلاد وشعبها وهم لا يعلمون ماذا يفعلون من أمرهم.

الجيش الأفغاني الذي انهار كلية أمام مقاتلي «طالبان» استغرق بناؤه عشرين عاماً كاملة، وصرفت عليه الولايات المتحدة مليارات الدولارات من أموال دافعي الضرائب الأميركيين، بالإضافة إلى ما تم صرفه عليه من أموال الشعب الأفغاني ذاته الذي كان في أمس الحاجة إلى تلك الأموال التي ذهبت هباءً منثوراً، والمسؤولين الأفغان سريعاً، العديد منهم منتخبون، ومن المفروض أن يكونوا قد أقسموا على الحفاظ على مصالح شعبهم أياً كانت الظروف التي تمر بها البلاد. لذلك، فإن جميع ما حدث في البلاد المنكوبة منذ ما قبل غزو الدولتين العظميين لها هي أمور مثيرة لكل أنواع العجب والاستغراب خلال الأيام القليلة الماضية، لكن الدروس المستقاة منها لا حصر لها، وستبقى تدرس وتطرح وتناقش، ويتم تعليمها في علم السياسة على مدى عقود وأجيال قادمة.

جاء غزو الولايات المتحدة الأميركية لأفغانستان عام 2001 لكي يشكل نقطة تحول جديدة في الفكر السياسي والاستراتيجي والعسكري لهذه القوة التي يفترض أن تكون العظمى الوحيدة في عالم اليوم، والسبب الرئيس الذي دفع لذلك الغزو هو تواجد تنظيم «القاعدة» في أفغانستان المسؤول عن هجمات الحادي عشر من سبتمبر على مدن واشنطن العاصمة ونيويورك، ورغم تحقيق الهدف المنشود في وقتها ومقتل زعيم «القاعدة» في وقت لاحق في باكستان، وانسحاب الولايات المتحدة العسكري رسمياً لكي يتم فتح الطريق أمام «طالبان» للعودة إلى السيطرة الكاملة على البلاد مرة أخرى، إلا أن الولايات المتحدة ستستمر في مواجهة الصعاب في محاولتها فك الارتباط مع ما أصبح حالة ذات تعقيدات شديدة، وبلاد غير مستقرة أصبحت العديد من الأطراف ضالعة فيها أهمها باكستان وإيران والهند والصين ودول الخليج العربي، بالإضافة إلى أفغانستان ذاتها.

إن ضلوع دول الغرب - الولايات المتحدة، وعدد من دول حلف شمال الأطلسي - المستمر في أفغانستان يبدو فريداً من نوعه ومنطوياً على مفارقات تاريخية، فالمشكلة في حلها ليست بأيديولوجية، كما قد تبدو لأول وهلة: حيث يوجد توافق عريض بين القوى الكبرى والدول الإقليمية منذ زمن بعيد على الحد من تدفق الأسلحة إلى كافة الأطراف المتحاربة في البلاد، بما في ذلك الحكومة وحركة «طالبان» الذين كانوا يخوضون حرباً لا نهاية لها، لكن فيما يبدو أن «طالبان» استطاعت الالتفاف على ذلك بدهاء شديد.

ويوجد أيضاً شيء من الاتفاق على أنه يتوجب إدخال نمط من الانتخابات التي أجريت، لكن حركة «طالبان» امتنعت عن الاشتراك فيها طيلة السنوات العشر التي بقيت فيها الولايات المتحدة ودول حلف شمال الأطلسي في البلاد، وآثرت التمسك بالسلاح، وخوض حروب طاحنة إلى أن أجبرت الحلفاء على الانسحاب. وفيما يبدو أن المجتمع الدولي لا يزال متمسكاً بفكرة الانتخابات هذه، معتقداً بأنها السبيل الوحيد الذي يمكن من خلاله إنهاء الحرب الأهلية، لكن السؤال يبقى كيف يمكن إجراء هذه العملية الانتخابية، بعد أن سيطرت «طالبان» على كامل القطر آخذين بعين الاعتبار فقدان القيادة المقبولة التي يمكن لها السيطرة الكاملة على الحياة السياسية، فـ«طالبان» لا تزال حركة لها العديد من الأعداء المنتشرين على مساحة أفغانستان، بالإضافة إلى وجود أمراء الحروب وتجارها والمنتفعين الآخرين من استمرار الحرب إلى ما لا نهاية.

إن هذه مشاكل أفغانية داخلية لا يمكن لجميع القوى الخارجية حلها دون اتفاق الأفغان فيما بينهم. وفي تقديري أنه توجد مجموعة عوامل أفغانية محضة تمنع أي طرف خارجي من التأثير على مجريات الأمور، وهي عوامل رئيسة مهمة تجعل من جميع القوى الخارجية مضطربة ومشتتة وغير فعّالة أو قادرة على التأثير، تلك العوامل، هي: روح الاستقلالية الجارفة، ورفض قبول الأوامر من الغرباء، وتغلغل النفوذ الديني في عقلية وفكر الإنسان الأفغاني، وكره الإنسان الأفغاني للفكر الغربي؛ وأخيراً السياسات الداخلية في دول الجوار الأفغاني - باكستان وإيران.

* كاتب إماراتي