قالوا في مدحه: (عريش القيظ في ليل الظلام.. نهبني ضياه وأنت المستريح). في هذا المكان في خضم الرحلة الطويلة في غضون القيظ، وملحه، وعرقه، كانت القافلات تلهث باتجاه الغب، وعند مضاربها المكللة بغابات النخيل، مصفوفة كأنها مصفدة، كأنها أحلام الطفولة، كأنها تماثيل بوذية عريقة في إلهامها، أنيقة في استقامتها، رشيقة في تمايلها، ترتب ترانيمها على وزن وقافية، وتذهب بوجدان الناس نحو ذاكرة تظفر جدائلها، بأنملة وهدب، وتخصب الحياة بالأصفر الذهبي والأحمر الزمردي، وتخوض بسالة الوجود بعنفوان العناقيد، وعفة السعفات، هناك في الغب، حيث تجتمع (العرشان) وتلتئم المنانات والسقائف، وتتكاتف أشجار اللوز عند نبع الماء، لتعطر المكان، وتملأ الحياة شذى عفوياً، فطرياً، لا تشوبه شائبة يد إنسانية، ولا تعرقل دهشته لوثة عصرية. في ذلك المكان تهب النسمة محمّلة بتغريدة وعطر وتنهيدة وسبر، وتعويذة وخبر، وحرز الغافيات على نهر من أحلام القيظ متوجة بخيال الطير، مرفرفة بأجنحة تلك الحمامات رمادية الريش، بيضاء السرد.
في الصباح يخرج الرجل النبيل (البيدار)، وعلى كتفه يتمسك (الحابول) ومحش العشب بيده مثل صنارة الصيد، وعند مقربة من نبع الماء، تنتعش أغنيات البيدار، حيث يصعد على صهوة نخلته، ويغني (القيظ ما طول زمانه -شهرين والغالي مشوبه)، ويستمر الغناء، ومعه يردد الطير البري هديله، وينعم بالمشاكاة، والمشاكسة، حتى يطل وجه ذلك الرجل التاريخي، محمد السامان، بقميصه القطني الأبيض الشفاف، والمئزر الأخضر المخطط بالأبيض، والأسود الفاتح، يبتسم الرجل، وقد بان وجهه كموجة ناصعة في عفويتها، وجمال سحنتها، بينما البيدار(عبدالله) يهبط من عل بتأن، وقلبه ينفرج عن رفرفة صباحية، مبعثها حبه لهذا المالك نقي السريرة، وعندما يتوغل في بستان النخل، وهو متكئ على بصيرة فذة، يتبعه البيدار متقصياً خطواته الرائقة، في ذلك الصباح القيظي اللاهب، ماعدا قلب السمان المنفتح على الحياة، كما هي عناقيد نخله، كما هي أغصان اللوز المشرعة على العالم كأجنحة الطير، كسماء بنجومها الصفراء، والحمراء. لم يبق من ذلك العريش سوى ذاكرة زاهية بالصور الجميلة، والمشاهد المزخرفة بالحب.