ارتفعت في الآونة الأخيرة، وبالأخص بعد حرائق الغابات في عدد من الدول، الأصوات المطالبة بالحد من التلوث والذي يؤدي إلى ارتفاع درجة حرارة الأرض وما يعقبه من أضرار اقتصادية كبيرة وتدمير للبنى الأساسية، بالإضافة إلى الخسائر البشرية.

ففي ألمانيا وحدها قُتل 141 شخصاً بسبب الفيضانات، وتكبدت شركات التأمين خسائر بخمسة مليارات يورو، كما خصصت الحكومة أكثر من 50 مليار يورو لتعويض المتضررين. ورغم انضمام معظم دول العالم لاتفاقية باريس للمناخ، إلا أن الالتزام ببنودها أمر صعب للغاية، فالدول النامية لا يمكنها عملياً استغلال مصادر الطاقة النظيفة بسبب نقص التمويل، بل حتى الدول المتقدمة تعاني من خلل كبير بسبب التكاليف الخاصة بإقامة منشآت الطاقة المتجددة.

لذلك فما نراه اليوم هو محاولات لإلقاء اللوم على هذه أو تلك من الدول بدلاً من التعاون البنّاء للحد من التلوث، والذي هو مطلب عالمي إنساني للمحافظة على البيئة ومواردها للأجيال القادمة. فالدول المتقدمة، وبالأخص الولايات المتحدة، توجه اللوم إلى الدول المنتجة للنفط في مجموعة «أوبك بلس»، إلا أن الموقف الأميركي في هذا الصدد غير مفهوم ومتناقض إلى حد كبير، كما هو حال السياسات الأميركية حالياً والتي تصدر عنها تصريحات متناقضة في معظم المواقف.

لنأخذ على سبيل المثال موقفها من النفط والتغير المناخي، ففي بداية عهد جو بايدن قبل ستة أشهر تقريباً انتقدت الإدارة الأميركية دول «أوبك بلس» بسبب الانبعاثات الكربونية الضارة، كما اتخذت إجراءات مشددة ساهمت في إغلاق العديد من مكامن النفط الصخري، وهو ما ساهم في ارتفاع واردات النفط الأميركية. وإلى هنا فإن توجه إدارة بايدن مفهوم، إلا أنه من غير المفهوم ما نقلته وكالة «رويتر» قبل أيام قليلة عن جيك سوليفان، مستشار الأمن القومي الأميركي عندما قال إن «زيادات إنتاج نفط أوبك بلس غير كافية»! كما طالب الرئيس الأميركي دول المجموعة بزيادة الإنتاج! حيث جاء الرد الأول من مسؤولين سعوديين قائلين، بأنهم «مرتبكون من مواقف إدارة بايدن التي تسعى لخفض استهلاك النفط، بينما تطالب دول أوبك بلس بضخ المزيد منه»!

والحقيقة أنه ليس السعوديون وحدهم المرتبكون من المواقف الأميركية، وإنما كافة الدول المنتجة، إذ من غير المعروف هل تريد الإدارة الأميركية تخفيض الإنتاج أم زيادته؟ هذا الارتباك من وجهة نظرنا ناجم عن الابتعاد عن التقييم الموضوعي لعلاقة النفط بالمناخ والذي اكتسب بعداً شعبوياً للمزايدات الانتخابية، وبالأخص بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي في الولايات المتحدة.

ومن حيث المبدأ، فإن مسألة التغير المناخي مسألة مهمة وتعني كافة الدول والشعوب، وهي تلقى الدعم على نطاق واسع، بدليل انضمام معظم دول «أوبك بلس»، بما فيها دول مجلس التعاون الخليجي، لاتفاقية باريس للمناخ. إلا أن ثمة عقبات لا بد من إزالتها، كما أن هناك متطلبات لا يمكن من دونها الخروج من هذا المأزق والانتقال إلى عالم أقل تلوثاً وأكثر استقراراً بيئياً.

أول هذه العوائق يكمن في ضعف التنسيق بين الدول المنتجة والمستهلكة للطاقة، خصوصاً النفط والغاز، ففي الوقت الذي تطالب فيه الولايات المتحدة برفع إنتاج النفط، فإن علاقتها بأكبر دولتين نفطيتين، وهما السعودية وروسيا، ليست على ما يرام، أما في الجوانب الموضوعية فإن البنى التحتية للطاقة النظيفة والمتجددة تعاني من نقص كبير، وهي غير قادرة في الوقت الحاضر على تلبية الاحتياجات الاستهلاكية، علماً بأن تكاليف إنتاجها مرتفعة للغاية، مقارنةً بالنفط والغاز، وبالتالي فهي خارج نطاق إمكانيات الكثير من الدول.

وهذا يعني أن المزايدات الشعبوية والانتخابية الداعية إلى إحداث تغيير كبير وجذري في ميزان الطاقة بالتخلي عن مصادر الطاقة التقليدية، في ظل عدم تهيؤ البنى التحتية للمصادر الأخرى المتجددة، والنقص الشديد الذي تعاني منه.. كل ذلك يعني أن الأمور لن تستقيم في ظل هذا التناقض، مما يتطلب الابتعاد عن الشعارات وتعميق التعاون بين دول العالَم لإحداث نقلة نوعية للمحافظة على البيئة وتعزيز النمو الاقتصادي المستدام.

*مستشار وخبير اقتصادي